العدالة المناخية في شمال أفريقيا والشرق الأوسط: دعوة إلى عمل عادل وشامل
تغير المناخ لم يعد مجرد تحدٍ بيئي أو علمي؛ بل هو في جوهره نداء للعدالة. فالآثار المتسارعة لهذا التحول ليست عابرة أو محايدة، بل تتشابك بعمق مع أنسجة الظلم الاجتماعي والأنظمة القديمة للاستغلال السياسي. في شمال أفريقيا والشرق الأوسط، تتردد صدى هذه القضية بوضوح أكبر، حيث يعمّق الإرث الاستعماري والنيوليبرالي الفجوات الاقتصادية والاجتماعية، ويترك الأضعف في مواجهة الرياح العاتية لتغير المناخ. وفي ظل الجفاف المتفاقم، وارتفاع درجات الحرارة، وندرة المياه، وتدهور الأراضي، تنكشف الفوارق العميقة بين من هم الأقل إسهامًا في الأزمة، وبين من يتحملون العبء الأثقل، ليصبح السؤال عن العدالة المناخية أكثر إلحاحًا من أي وقت مضى.
لطالما دارت السرديات حول تغير المناخ في فلك الحلول التكنولوجية والعلمية، من تقليل الانبعاثات إلى احتضان الطاقة المتجددة. ورغم أن هذه الحلول تكتسب أهمية خاصة، إلا أنها تتجاهل القضايا الأكثر عمقًا وجوهرية: قضايا العدالة الاجتماعية والجندرية والتاريخية. ففي هذه المنطقة، حيث تظل المساهمات في الانبعاثات العالمية ضئيلة نسبيًا، نجد أنفسنا في مقدمة المتضررين. هنا، تتجلى العلاقة المعقدة بين الأزمة البيئية والظلم التاريخي، حيث استُغلت هذه الأراضي ومواردها لعقود طويلة على يد قوى استعمارية، واستمر استنزافها تحت أنظمة اقتصادية جائرة تدعمها مصالح النيو-استعمار، مما يجعل من العدالة المناخية أمرًا ملحًا يستحق التناول والنقاش.
المغرب: نموذج في الطاقة المتجددة لكنه بعيد عن تحقيق العدالة المناخية
خذ المغرب، على سبيل المثال، حيث حققت بلادي إنجازات بارزة في مجال الطاقة المتجددة، لتصبح منارة مضيئة بين الدول الرائدة في هذا المجال. إذ تستثمر في مشاريع طموحة مثل محطة نور للطاقة الشمسية في ورزازات[1]، التي تتألق كنجمة في سماء الاستدامة. يحتل المغرب مرتبة متقدمة عالميًا في تقرير الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ (IPCC)[2]، لكن، رغم هذه النجاحات البيئية، ما زلنا بعيدين عن تحقيق العدالة المناخية الشاملة. فالأمر لا يقتصر على تقليل الانبعاثات أو تحسين البنية التحتية للطاقة النظيفة، بل يتجاوز ذلك ليشمل الاعتراف بالاستغلال التاريخي للأرض ومواردها، والتصدي للفجوات الاجتماعية والاقتصادية التي تجعل بعض المجتمعات أكثر هشاشة أمام الكوارث المناخية.
النساء والفتيات في المناطق الريفية هن من بين الأكثر تضررًا، حيث يعتمدن على الأرض والمياه كعصب حياتهن. يواجهن انعدام الأمن الغذائي والاقتصادي نتيجة آثار التغير المناخي التي تعصف بهن، في حين يُستبعدن باستمرار من دوائر صنع القرار المتعلقة بالسياسات المناخية. إن تحقيق العدالة المناخية الحقيقية يتطلب تمكين هذه الفئات المهمشة، وضمان أن تُسمع أصواتهن وتُعزز في صميم السياسات المناخية، لتكون في قلب الحلول الموجهة لمواجهة التحديات البيئية التي تواجه منطقتنا.
أزمة الزلزال في المغرب: تجسيد للظلم الاجتماعي والمناخي
الأزمة المناخية ليست مجرد كارثة بيئية فحسب، بل هي أزمة اجتماعية شاملة تعكس عمق التحديات التي نواجهها. لقد أدركت هذا بشكل واضح بعد الزلزال الذي ضرب منطقتي في المغرب العام الماضي، حيث أسفر عن دمار هائل لم يطال المباني والبنية التحتية فحسب، بل طالت آثاره حياة الناس وسبل معيشتهم. لكن ما صدم روحي أكثر من الخراب المادي هو الدمار الاجتماعي الذي تلا الكارثة. وسط جهود الإغاثة، بدأت تتسرب أخبار مؤلمة عن استغلال الفتيات الصغيرات اللواتي فقدن أسرهن جراء الزلزال[3]. كانت هؤلاء الفتيات عرضة للتحرش والاستغلال من قبل بعض الأشخاص الذين جاءوا ظاهريًا لتقديم المساعدة. هذا الوضع يجسد بشكل صارخ كيف تتداخل الأزمات المناخية مع الأزمات الاجتماعية الأخرى، مثل العنف القائم على النوع الاجتماعي والاستغلال، مما يبرز ضرورة اتباع مقاربة شاملة للتعامل مع الكوارث، تضمن حماية الفئات الأكثر ضعفًا وتعزز العدالة لكل أفراد المجتمع.
تحرير فلسطين والعدالة المناخية: نضال مشترك من أجل الحرية
وفي سياق الحديث عن العدالة، تبرز العلاقة العميقة بين العدالة المناخية والنضال الفلسطيني من أجل التحرير[4]، كأنهما وجهان لعملة واحدة. فكما تتعرض منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا لاستغلال مواردها الثمينة، تعاني فلسطين من قمع بيئي واجتماعي متواصل بفعل الاحتلال. إن التحكم الإسرائيلي في الموارد الطبيعية الفلسطينية، مثل المياه والأراضي الزراعية، لا يزيد فقط من وطأة التغير المناخي، بل يعمق من تهميش المجتمعات الفلسطينية، التي تواجه تحديات مزدوجة تتمثل في الاحتلال والأزمة البيئية.
العدالة المناخية في فلسطين ليست مجرد مسعى منفصل، بل هي جزء لا يتجزأ من النضال من أجل التحرير. فكل شكل من أشكال الاحتلال يمثل استغلالًا بيئيًا واجتماعيًا، يحرم الفلسطينيين من حقهم في السيطرة على مواردهم وحياتهم. إن تحرير فلسطين يتطلب مواجهة هذه الأزمات المتشابكة، لضمان أن تُسمع أصوات الفلسطينيين في جميع الساحات، وأن تُعترف حقوقهم في أرضهم ومواردهم، حيث يمكنهم بناء مستقبل مستدام وعادل لأنفسهم ولأجيالهم القادمة.
فيصبح النضال من أجل تحرير فلسطين جزءًا لا يتجزأ من النضال الأوسع من أجل العدالة المناخية في المنطقة. إن تحرر فلسطين من الاحتلال سيمكنها من التكيف مع التغيرات المناخية وإدارة مواردها الطبيعية بشكل عادل ومستدام. العدالة المناخية هنا ليست فقط مسألة بيئية، بل هي أيضًا مسألة حرية وكرامة إنسانية.
الطريق نحو عدالة شاملة: السياسات العادلة والمشاركة المجتمعية
الطريق إلى الأمام لمنطقة شمال أفريقيا والشرق الأوسط لا يمكن أن يسير فقط على مسارات الحلول التكنولوجية أو الاقتصادية. لتحقيق العدالة المناخية الحقيقية، يجب أن نضع الفئات المهمشة في صميم عملية صنع القرار. فهذا يتطلب سياسات ترتقي فوق مجرد تخفيف آثار تغير المناخ، لتسعى إلى تمكين المجتمعات التي تعاني أكثر من غيرها من هذه التحديات الجسيمة.يجب أن نتعهد بأن نفتح أبواب المشاركة أمام النساء والشباب، وكل الفئات المهمشة، ليكون لهم دور فعال ومؤثر في صياغة السياسات المناخية وتنفيذها. فبصوتهم، يمكننا أن ننسج رؤية مستقبلية تعكس احتياجاتهم وآمالهم، وتؤسس لعالم أكثر عدلاً وشمولية. إن المسار نحو العدالة المناخية لا يكتمل إلا بتعزيز هذه الأصوات، وتمكينها من التأثير على القرارات التي تحدد مصيرنا جميعًا.
في السنوات الأخيرة، تجسد مفهوم العدالة المناخية بشكل ملحوظ من خلال مخيمات العدالة المناخية[5] التي انعقدت في لبنان وتونس على مدار العامين الماضيين. كانت هذه المخيمات بمثابة منبر حيوي للشباب في منطقة شمال أفريقيا والشرق الأوسط، حيث أتيحت لهم الفرصة لإظهار إمكانات منطقتنا في مواجهة التحديات المناخية الجسيمة. من خلال جلسات تعليمية ملهمة ومناقشات جماعية مثمرة وورش عمل تفاعلية، تمكن الشباب من تعزيز الوعي بقضايا العدالة المناخية وتقديم حلول محلية مبتكرة. كانت هذه التجمعات بمثابة شعلة أضاءت الدور القيادي الذي يلعبه الشباب في الدفع نحو التغيير، حيث قادوا مبادرات ترتكز على الاستدامة والتنوع البيئي، ودمج الفئات المهمشة في صميم عملية صنع القرار. أظهرت هذه المخيمات، رغم التحديات التي تعترض طريقنا، أن منطقتنا تحمل في طياتها إمكانيات هائلة للتكيف مع الأزمة المناخية. والشباب هم القوة الدافعة التي تقود هذا التحول نحو مستقبل أكثر عدلاً واستدامة، حيث يكتبون بيدهم فصول الأمل ويزرعون بذور التغيير في أرضهم.

صورة للشباب المشاركين في مخيم العدالة المناخية في لبنان، المصدر: Roukoz Alam

صورة للشباب المشاركين في مخيم العدالة المناخية في تونس، المصدر: غرينبيس
لا يمكن أن يتحقق حلم العدالة المناخية الحقيقية دون أن نغوص في أعماق الأبعاد الاجتماعية والاقتصادية والجندرية للأزمة. فهذه العدالة ليست مجرد مسعى للبقاء في وجه الأزمات البيئية، بل هي رحلة نحو خلق مستقبل يُمنح فيه كل إنسان، بغض النظر عن جنسه أو دخله أو مكانته الاجتماعية، الحق في العيش بكرامة وحرية في عالم يتجلى فيه العدل والاستدامة.
من خلال هذا النهج الشامل الذي ينسج خيوط العدالة المناخية مع التحرر الاجتماعي، يمكننا رسم معالم مستقبل أكثر مرونة وإنصافًا لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. فالعدالة المناخية ليست مجرد سعي لإنقاذ البيئة، بل هي نضال إنساني بحت، حيث ترفع الشعوب صوتها لتحرر نفسها من كل أشكال الظلم والاضطهاد، سواء كان ذلك استغلالًا للموارد أو هيمنة سياسية أو تمييز اجتماعي.
بهذه الطريقة، نصنع عالمًا يعكس قيم المساواة والكرامة، حيث تتفتح الأبواب لكل فرد ليكون شريكًا في بناء غدٍ أفضل.
مقال بقلم فاطمة الزهراء تاريب
[1] https://acwapower.com/ar/projects/nooro-iii-csp-ipp/
[3] https://www.cnn.com/2023/09/08/africa/morocco-6-8-magnitude-earthquake-intl-hnk/index.html

فاطمة الزهراء هي خريجة علوم سياسية بخبرة واسعة في المبادرات المناخية والمؤتمرات الدولية. على مدار أكثر من ست سنوات، مثلت عدة منظمات في فعاليات أممية رفيعة، بما في ذلك COP27 وCOP28، SB58، والجمعية العامة للأمم المتحدة (UNGA)، حيث أسهمت في تطوير السياسات المناخية العالمية. اكتسبت خبرة متنوعة في القطاعات العامّة، الخاصّة، الأكاديمية، الحكومية، وغير الربحية، مما منحها رؤية شاملة حول التنمية المستدامة والشمولية الاجتماعية. حالياً، تعمل فاطمة الزهراء مديرة العلاقات العامة في “فرص خضراء”، حيث تستخدم شبكاتها الواسعة ومعرفتها لدعم التحولات البيئية والاجتماعية، مع التركيز على تمكين الشباب وزيادة المشاركة المجتمعية في القضايا البيئية.