هكذا كانت الصرخة، بعد نزول آخر قطرة، حينما نادت المياه “وا معتصماه”، محاولةَ التجرؤ على قرع جدران الخزان، مُدرِكةَ التدهور بشأن شح المياه والأزمة الإقليمية، ومُحاوِلةً الوصول لحل ينتشلها.
أزمة المياه سترسم الخارطة السياسية قريباً
أضحت مشكلة المياه في صلب الأمن القومي؛ مسألة قد يترتب عليها إشكاليات وقلاقل قد تصل للحروب بين الدول من أجل تأمين مصادر كافية من المياه لمواطنيها، من أجل هذا تتضح الحاجة لبحث هذه المسألة من منظور مغاير قد يسهم في الحد من الإشكاليات المترتبة على الصراعات الدولية والإقليمية.
فقضية المياه في الشرق الأوسط قنبلة موقوتة، فمع استمرار الحروب والنزعات، تفاقم شح المياه مهدداً بالجفاف، إذ أصبح الحصول عليها مسألة حياة أو موت في مناطق الصراع العربي.
ووفقاً لتحليل دوائر سياسية عالمية، فنرى أن أغلب الأقطار العربية لا تملك السيطرة الكاملة على منابع مياهها، أثيوبيا وتركيا وغينيا وإيران والسنغال وأوغندة وربما زائير أيضاً هي بلدان تتحكم بحوالي 60% من منابع الموارد المائية (شراقي، 2014).
هكذا، ففي منطقة الأغوار الفلسطينية مثلاً، يستولي الاحتلال على مضخات مياه ومحولات كهربائية وألواح شمسية، من شأنه جعل قرابة 600 دونماً، مزروعة بالعنب، والذرة، دون مصدر مياه.
ومما سبق يتضح خطورة قضية المياه العربية وأثرها البالغ في مستقبل التنمية الاقتصادية العربية وتشعب أبعادها الأمنية والاجتماعية مما يعزز الصلة الوثيقة بين الأمن المائي للوطن العربي وأمنه القومي، وأنه على الدول العربية شعوباً وحكومات أن تتحد لمواجهة أبعاد هذه القضية وفق حس قومي مسؤول.
إن المشكلات الكمية للمياه في الدول العربية تكمن في وجود فجوة مائية سالبة ما بين إمداد المياه والمطلوب توافره ومن المتوقع زيادة هذا في المستقبل القريب، الأمر الذي يفرض على الجميع البحث عن حلول إبداعية لهذه المشكلة.
البصمة المائية وتجارة المياه الافتراضية تعطيان بصيص أمل
في ظل الحالة المتزايدة لندرة المياه في أجزاء كثيرة من العالم، فإن التجارة الافتراضية للمياه تعد أداة سياسية ووسيلة عملية لتحقيق التوازن بين ميزانية المياه المحلية والوطنية والعالمية.
وتتلخص فكرة تجارة المياه الافتراضية في أن الدول التي تعاني من ندرة في المياه يسعها تعويض هذا النقص أو جانب منه عبر استيراد السلع التي تحتاج لقدر أقل من المياه من أجل إنتاجها وذلك بغرض تحقيق الاستفادة القصوى من قيمة المياه المحدودة التي لديها.
وعبر اتباع الدولة التي تعاني من نقص المياه لهذه الاستراتيجية، يمكنها توفير جانب أكبر من المياه الفعلية التي تمتلكها من أجل توجيهها للاستخدامات مرتفعة القيمة.
ميزان المياه الافتراضية والوفر المائي:
تتحدد مدى حاجة الدولة لاستيراد أو تصدير المياه عبر منظومة تجارة المياه الافتراضية من واقع الوفر المائي الذي تحققه هذه الدولة في ميزان مياهها الافتراضية، وهذا يتشابه بدرجة كبيرة مع ميزان العجز والفائض التجاري؛ فعند زيادة نسبة ما يتم تصديره من مياه افتراضية على ما يجري استيراده تكون المحصلة لهذه الدولة تحقيق فائض في ميزانها من المياه الافتراضية، ومن ثم يعتبر ذلك إشارة دالة على الوفر المائي للدولة.
إذاً فمن النتائج الإيجابية المهمة التي تسفر عنها تجارة المياه الافتراضية في الدول التي يتعين عليها استيراد المياه لتلبية العجز المائي هو تحقيق الوفر المائي عبر استيراد نسبة العجز من قبل دولة أخرى تتمتع بفائض أو وفرة مائية.
البصمة المائية:
تشير البصمة المائية إلى مؤشر تم تطويره مؤخراً بهدف تحديد المحتوى الافتراضي للمياه في المنتجات والخدمات. وبشكل مبسط تشير البصمة المائية إلى المقدار الفعلي من المياه المستهلك في إنتاج أو زراعة سلعة أو محصول ما؛ ومن ثم تحديد مدى تأثير هذه السلعة أو هذا المحصول على النظام المائي.
والبصمة المائية هي مؤشر على استخدام المياه العذبة يحدد مقدار الاستخدام المباشر وغير المباشر للمياه من قبل المستهلك أو المنتج، فعلى سبيل المثال، يتطلب إنتاج كيلو لحم بقري 15000 لتراً من الماء ويحتاج إنتاج بنطلون جينز إلى 8000 لتر ماء .
ويعد فهم البصمة المائية لدولة ما أمراً وثيق الصلة بتطوير سياسة وطنية مستنيرة لإدارة ملف المياه في هذه الدولة، إذ تقتصر حسابات استخدام المياه الوطنية التقليدية على إحصاءات ومعدلات استهلاك المياه داخل أراضيها، أما البصمة المائية فتعمل على توسيع هذه الإحصاءات من خلال تضمين بيانات حول استخدام مياه الأمطار وحجم استخدام المياه لاستيعاب النفايات وإضافة بيانات حول استخدام المياه في البلدان الأخرى لإنتاج المنتجات المستوردة، فضلاً عن الإفادة من بيانات استخدام المياه داخل الدولة لصنع منتجات التصدير.
كما يجري استخدام هذا المصطلح لتحديد طبيعة ومستوى تجارة المياه الافتراضية في جميع أنحاء العالم.
وتتكون البصمة المائية من ثلاثة أجزاء (المياه الخضراء والزرقاء والرمادية) التي تجعل التقييم كاملاً وفقًا لشبكة البصمة المائية (Water Footprint Network) بما يتماشى مع الإصدار الأخير لمعيار الأيزو (ISO14046). وترتبط أهمية البصمة المائية بالحاجة إلى الوعي بالمحتوى المائي في المنتجات والخدمات والتغيرات القابلة للتحقيق في الإنتاج والوجبات الغذائية وتجارة السوق.
تجارة المياه الافتراضية من وجهة نظر التنمية المستدامة:
تسعى أهداف التنمية المستدامة التي وضعتها الأمم المتحدة إلى تحقيق عالم أفضل ومستدام يستطيع البشر العيش في رحابه، في ضوء تلك الأهداف يتضح أن الأمن المائي والغذائي يتصدران القائمة، ومن شأن تطبيق تجارة المياه الافتراضية أن يساعد دول الشرق الأوسط على تحقيق هذه الأهداف ويحد من الأثر المترتب على العجز المائي الذي تعاني منه العديد من بلدان المنطقة عبر قيامها باستيراد المحاصيل والمنتجات كثيفة استهلاك المياه من دول تتمتع بالوفرة المائية؛ وبالتالي تؤمن المنتجات والمحاصيل الضرورية لمواطنيها دون استنفاد مواردها المائية الشحيحة.
من شأن ذلك أيضاً أن يحافظ على النظم الإيكولوجية لتلك الدول ويحسن قدرتها على التأقلم مع التغيرات المناخ والجفاف والفيضانات، كما قد يساعدها في تحقيق استفادة أضل من أراضيها الزراعية عبر زراعة محاصيل لا تحتاج إلى معدلات عالية من استهلاك المياه.
فضلاً عما سبق، تركز أهداف التنمية المستدامة في الهدف الثاني عشر على الإنتاج والاستهلاك المستدام، وترمي إلى تحسين النظم الإيكولوجية والحد من الاستهلاك المفرط للمياه للأغراض الزراعية عبر الاستفادة من التقنيات الحديثة وأساليب الري بالتنقيط وما إلى ذلك من طرق أكثر توفيراً للمياه في الاستخدامات الزراعية.
وبطبيعة الحال فإن التجارة الافتراضية للمياه تمثل بديلاً استراتيجياً وفعالاً في هذا الصدد، إذ أن بوسع بعض الدول التي تتمتع بوفرة مائية هائلة ولا تستفيد منها أن توجه هذه الوفرة إلى إنتاج المحاصيل التي يحتاجها العالم وتحتاج كثير من المياه.
إذ يمكن للسودان على سبيل المثال أن تصبح سلة غلال العالم عبر الاستفادة من مياه الأمطار عوضاً عن هدرها.
وأخيراً، على البلدان الناطقة بالعربية التضامن الاجتماعي والثقافي من أجل دعم حق جميع البلدان في قسط منصف وعادل من الموارد المائية الدولية العابرة لها.
Hoekstra, A. Y., Chapagain, A. K., Mekonnen, M. M., & Aldaya, M. M. (2011). The water footprint assessment manual: Setting the global standard. Routledge
Hoekstra, A. Y. (2013). The water footprint of modern consumer society. Routledge.
Vanham, D. (2013). An assessment of the virtual water balance for agricultural products in EU river basins. Water Resources and Industry, 1, 49-59.
برنامج الإنمائي (2014). حوكمة المياه في المنطقة العربية: إدارة الندرة وتأمين المستقبل، UNIP، المكتب الإقليمي للدول العربية.
Wada, Y., & Bierkens, M. F. (2014). Sustainability of global water use: past reconstruction and future projections. Environmental Research Letters
Lovarelli, D., Bacenetti, J., & Fiala, M. (2016). Water Footprint of crop productions: A review. Science of the Total Environment, 548, 236-251.