لا جدران تردّ العاصفة : عن هشاشة مدننا في زمن المناخ

المقدمة : المدن العربية في مواجهة التغيرات المناخية: بين التحديات والأمل

لم نكن نحسب المطر عدوًّا، ولا الشمس تهديدًا. كنا نغني للمطر، ونفرش أرواحنا تحت دفء الشمس. لكن المدن تغيّرتأو ربما نحن من أغفلنا نداء الأرض الطويل. ففي ظل التغيرات المناخية المتسارعة، لم تعد هذه الظواهر الطبيعية محض محطات في الأخبار، بل أصبحت واقعًا يوميًا يفرض نفسه على حياتنا، ويؤثر في كل جانب من جوانب وجودنا، في مدننا، في منازلنا، في محاصيلنا وفي طرق حياتنا.

في إحدى ليالي الصيف، انقطعت الكهرباء عن بيت جدتي في الضفة، وجفّت صنابير المياه. التفتت إليّ قائلة: “كان الصيف زمان بركةليش هلأ صار نقمة؟” سؤالها ظلّ يطاردني، ليس لأنه بسيط، بل لأنه يفضح كل ما تجاهلناه. فالتغير المناخي لم يعد خبراً عابرًا في نشرات المساء، بل صار خبزنا اليومي: في الزحمة، في الانقطاع، في الحرارة التي لا ترحم.

التهديد المناخي أصبح واقعًا في المدن العربية

لم يعد السؤالهل ستتأثر مدننا؟” بلأيها ستكون أول من ينهار؟”. التغير المناخي لا يطرق الأبواب بل يقتحمها، والأدلة تتحدث بلغات جميع العواصم. من بيروت إلى القاهرة، ومن عدن إلى الدار البيضاء، تواجه المدن العربية اختبارات غير مسبوقة. في لبنان، عانت بيروت من موجات حر شديدة، وأصبح الصيف جحيماً لا يطاق. ترتفع درجات الحرارة بشكل متسارع وتزداد الاحتياجات إلى الطاقة، ما يسبب زيادة في استهلاك المولدات، التي تُنفث السموم في هواء المدينة. أما في العراق، فقد أصبحت درجات الحرارة التي تتجاوز 50 درجة مئوية مشهدًا مألوفًا. بغداد، المدينة ذات الأنهار، تغرق في العرق والغبار، ويضطر السكان إلى التكيّف مع أيام بلا كهرباء، بلا ماء، وأحيانًا بلا أمل.

وفي ليبيا، تحديدًا في مدينة درنة، لم تكن كارثة سبتمبر 2023 مجرد فيضان، بل مأساة إنسانية حصدت أرواح الآلاف بعد أن انهارت السدود تحت ضغط أمطار غير مسبوقة. لم تكن المدينة مستعدة، لا من حيث البنية التحتية ولا أنظمة الإنذار المبكر، وكأنها كانت واقفة بلا درع في وجه الطوفان. حتى المدن الساحلية مثل الإسكندرية في مصر، التي تواجه خطر الزحف البحري، تعاني من ارتفاع مستويات البحر، حيث تغمر المياه شوارعها في الشتاء أكثر من أي وقت مضى.

المدن العربية بحاجة إلى تخطيط ذكي لمواجهة التغير المناخي

في عالم يزداد حرارة، لم تعد الخطط البيئية ترفًا تُكتب في مكاتب مغلقة، بل أصبحت خرائط حياة، تحفظ الأرواح وتحمي الموارد. مدننا العربية، التي تقع في مناطق مناخية صعبة، تحتاج إلى استراتيجية دقيقة لتخطيط المدن بطريقة تضمن مقاومتها للأزمات المناخية المستقبلية. ما يجعل مدينة تنهار، ويجعل أخرى تصمدهو الاختيار. لذا، أصبح التخطيط العمراني الذكي أمرًا حيويًا.

في العقبة الأردنية، طُبّقت مشاريع ذكية لاستغلال مياه التبريد البحري في تخفيف استهلاك الكهرباء صيفًا. هذه الخطط تساهم بشكل مباشر في تقليل تأثيرات التغير المناخي، وتعتبر نموذجًا يجب على مدننا العربية اتباعه. وفي الدار البيضاء، تعمل مبادرات المجتمع المدني على تحويل الأسطح المهملة إلى حدائق حضرية، تساهم في امتصاص الحرارة وتحسن من نوعية الحياة في المدينة.

دبي، التي كانت تُعتبر رمزًا للتطور العمراني في المنطقة، تمضي في بناء أبنية صديقة للبيئة تعتمد على الطاقة الشمسية، وتوظّف الذكاء الاصطناعي في تتبّع استهلاك الموارد. هذا النموذج يُظهر كيف يمكن للمدن العربية أن تواكب التطور بشكل إيجابي، مع الاستفادة من التقدم التكنولوجي والتخطيط العمراني المدروس. كما أن هذه المبادرات ليست محصورة في المدن الكبيرة، بل تشمل أيضًا المدن الصغيرة التي بدأت تسعى لتحقيق استدامة بيئية.

حلول محلية: الابتكار المجتمعي كقوة تغيير

في عالم مليء بالحلول التقنية المعقدة، هناك شيئًا بسيطًا وجميلًا يحدث في الشوارع. الحلول ليست دائمًا في المختبرات، بل في قلب المجتمعات التي تصنع يومها بيدها. في العديد من المدن العربية، بدأ الناس يتكيفون مع التغير المناخي في صمت، على عكس ما يحدث في القاعات الرسمية. في دمشق، حول سكان المدينة القديمة أسطح المنازل إلى حدائق خضراء للاعتماد على الزراعة الذاتية. وفي القاهرة، استخدم سكان الأحياء الشعبية النفايات العضوية لتخصيب التربة، مما يمنحهم استقلالية ويخفف من عبء التغير المناخي.

أما في عدن، التي عانت من سنوات طويلة من الجفاف، بدأ الأهالي في استغلال الزراعة المائية، وهي طريقة تعتمد على تقنيات حديثة لا تتطلب مياه غزيرة. اختاروا محاصيل قادرة على التحمل، وأسسوا مزارع صغيرة على الأسطح، مما ساعد على تقليل التلوث البيئي. هذه المبادرات الصغيرة التي بدأها الناس في الشوارع هي الحلول التي تؤكد أن التغيير يبدأ من القاعدة.

في لبنان، تحوّل مشروعزراعة الأسطحمن فكرة فردية إلى حركة جماعية شاملة في العديد من المدن العربية. هذه المبادرات المحلية لا تقتصر على الزراعة، بل تشمل أيضًا توفير حلول فعّالة لتوفير المياه والطاقة. بالابتكار المجتمعي، يستطيع الناس بناء مدن أكثر مرونة، يمكنها مقاومة التغيرات المناخية وتحديات المستقبل.

الخاتمة : المدينة الجديدة بين الأمل والواقع

لن تكون المدن مجرد مبانٍ صامدة، بل ستصبح أماكن تُحاكي الأمل وتواجه التحديات. في عالم يعصف به التغير المناخي، يجب أن نتخذ من التخطيط المستدام والابتكار أسلوب حياة. الحلول لا تكمن فقط في التغيير الفردي، بل في قدرة المجتمعات على التعاون، وفي قدرة الحكومات على استثمار التكنولوجيا لبناء مدن مرنة تستطيع التكيف مع كافة الظروف المناخية.

في المستقبل، سيعتمد نجاح المدن العربية على قدرتها على التكيف مع التغيرات المناخية، وتحقيق توازن بين التطور التكنولوجي والتخطيط العمراني الذكي. المدن التي ستنجو هي تلك التي تعترف بتحدياتها، ثم تبدأ في العملخطوة بخطوة، من فرد إلى مجتمع، ومن مجتمع إلى عالم أفضل.

التكنولوجيا أصبحت جزءًا أساسيًا من الحلول، لكنها ليست هي الحل الوحيد. فمثلما لا يمكن للعلم وحده أن يوقف العواصف، لا يمكن للأفراد أن يغيروا المشهد وحدهم. يحتاج الأمر إلى تنسيق بين كافة الأطراف، من السلطات إلى الشركات، إلى المواطنين. علينا أن ندمج التقنيات الخضراء مع التخطيط العمراني الذكي، ونحول البيانات إلى قرارات مبنية على العلم، ولكننا أيضًا بحاجة إلى حلول محلية تشارك فيها المجتمعات.

إن الأمل يبدأ من الشوارع، وفي قوة التغيير تكمن في قدرة المجتمعات على بناء حلولها الخاصة. في النهاية، لن تكون المدينة الجديدة مجرد مدينة تُبنى بالخرسانة والحديد، بل ستُبنى بقوة الفكرة والإرادة.

-حنين اياد حبش

المراجع :

https://arabic.cnn.com/middle-east/article/2023/09/17/libya-flood-death-toll-rise-derna

https://www.facebook.com/watch/live/?ref=watch_permalink&v=627450422467291

https://www.youtube.com/watch?v=rpIV2tc95WM  

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *