
“إن أزمة شح المياه في الأردن ليست مجرد تحدٍ بيئي، بل تهديد وجودي يتطلب تضافر الجهود الحكومية والمجتمعية. من خلال خبرتي كمهندس متدرب، أؤمن بأن تعزيز صمود المدن الأردنية يتطلب نهجًا شاملًا يجمع بين التخطيط العمراني المستدام، الحلول القائمة على الطبيعة، والتكنولوجيا الذكية.”
بقلم: حسين عماد، مهندس متدرب سابق في شركة مياه الأردن “مياهنا”
مقدمة
يواجه الأردن، الذي يُعدّ ثاني أفقر دولة في العالم من حيث الموارد المائية، تحديات غير مسبوقة جرّاء شح المياه الناجم عن التغيرات المناخية، ندرة الأمطار، والضغط السكاني المتزايد بسبب الهجرات من دول الجوار. كمهندس متدرب في شركة مياه الأردن “مياهنا” لمدة ثمانية أشهر، اطّلعت عن كثب على واقع الأزمة المائية في بلدي، حيث تنخفض حصة الفرد السنوية من المياه إلى مستويات مقلقة، وتتفاقم التحديات في المدن التي تستضيف ثلاثة أرباع السكان. خلال تجربتي، لاحظت تأثير ارتفاع درجات الحرارة وتأخر مواسم الأمطار، خاصة بعد انتقالي من مدينة العقبة الساحلية إلى وسط المملكة، حيث تغيرت الأنماط المناخية بشكل ملحوظ منذ عام 2019. في هذا المقال، أستعرض أسباب شح المياه في الأردن، مستندًا إلى إحصائيات دولية ومحلية، مع التركيز على كيفية تعزيز صمود المدن الأردنية أمام الظواهر المناخية القاسية من خلال حلول مستدامة.
واقع شح المياه في الأردن: أرقام وتحديات:
يُصنّف الأردن ضمن أفقر عشر دول عالميًا في الموارد المائية، حيث لا تتجاوز حصة الفرد السنوية من المياه 84 مترًا مكعبًا في عام 2025، مقارنة بحد الفقر المائي العالمي البالغ 500 متر مكعب. وتشير توقعات البنك الدولي إلى أن هذه الحصة قد تنخفض إلى 35 مترًا مكعبًا بحلول عام 2040 إذا استمر الوضع الحالي. تتفاقم هذه الأزمة بسبب عدة عوامل:
1- التغيرات المناخية: انخفضت معدلات هطول الأمطار بنسبة 20% في الأردن خلال العقد الماضي، مع ارتفاع درجات الحرارة بمعدل 1.5 درجة مئوية، مما أدى إلى زيادة التبخر وتقليص مخزون المياه السطحية. على سبيل المثال، جفّت 11 سدًا من أصل 14 في المملكة بحلول عام 2021، مما قلّص مخزون المياه الحي إلى أقل من 5%. [1]
2- الضغط السكاني: يستضيف الأردن أكثر من 11 مليون نسمة، بما في ذلك أعداد كبيرة من اللاجئين السوريين، مما زاد الطلب على المياه بنسبة 40% منذ عام 2011. يعيش ثلاثة أرباع السكان في المدن الحضرية، التي تعاني من نقص مصادر المياه القريبة، مما يرفع تكاليف نقل المياه. [2]
3- الهدر والتلوث: يُفقد حوالي 50% من المياه المخصصة للبلديات بسبب التسربات، السرقات، والشبكات القديمة، وفقًا لتقرير البنك الدولي لعام 2025. كما أن الإفراط في ضخ المياه الجوفية وتلوثها بالمواد الكيميائية يهددان 54% من الموارد المائية الجوفية في البلاد. [3]
4- الاعتماد على مصادر مشتركة: يعتمد الأردن على مياه نهري الأردن واليرموك، المشتركين مع سوريا وإسرائيل، حيث يحصل على 215 مليون متر مكعب سنويًا بموجب معاهدة السلام لعام 1994، لكن هذه الكمية غير كافية وتتقلص بسبب التغيرات المناخية.
تؤثر هذه العوامل بشكل مباشر على المدن الأردنية، مثل عمان والزرقاء، التي تعاني من إمدادات مياه متقطعة، حيث يتم توزيع المياه مرة واحدة أسبوعيًا في العاصمة وكل 12 يومًا في بعض المناطق الريفية. كما يهدد شح المياه القطاع الزراعي، الذي يستهلك 45% من الموارد المائية، مما يؤثر على الأمن الغذائي [4].
المدن تحت التهديد: تأثير الظواهر المناخية القاسية
تتعرض المدن الأردنية لمخاطر مناخية متزايدة، مثل الفيضانات المفاجئة، العواصف الرملية، وموجات الحر الشديدة. على سبيل المثال، شهدت عمان فيضانات مدمرة في عام 2018، تسببت في خسائر بشرية ومادية، بسبب ضعف البنية التحتية والتخطيط العمراني غير المستدام. كما أدت موجات الحر المتكررة إلى زيادة الطلب على المياه والطاقة، مما يرهق الموارد الشحيحة. في مدينة العقبة، التي عشت فيها سابقًا، لاحظت ارتفاع درجات الحرارة الصيفية إلى مستويات غير مسبوقة، مما يزيد من التبخر ويقلل من فعالية الحصاد المائي.
حلول مستدامة لتعزيز صمود المدن الأردنية
لتعزيز قدرة المدن الأردنية على مواجهة شح المياه والظواهر المناخية القاسية، يمكن تبني حلول مستدامة ترتكز على التخطيط العمراني، الحلول القائمة على الطبيعة، والتكنولوجيا الذكية، مع الاستفادة من أفضل الممارسات العالمية والمحلية.
التخطيط العمراني المستدام للمستقبل القريب:
إعادة تصميم البنية التحتية: بحيث يمكن تطوير أنظمة تصريف مياه الأمطار في المدن مثل عمان والزرقاء لتقليل مخاطر الفيضانات. على سبيل المثال، طورت سنغافورة نظام “ABC Waters”الذي يجمع مياه الأمطار ويعالجها لإعادة الاستخدام، وهو نموذج يمكن تكييفه في الأردن. [5]
المباني الخضراء:تشجيع إنشاء مبانٍ موفرة للطاقة والمياه، مزودة بأنظمة تجميع مياه الأمطار على الأسطح. في الأردن، بدأت بعض المشاريع السكنية في عمان بتطبيق هذه الأنظمة، لكنها بحاجة إلى تعميم.
الحلول القائمة على الطبيعة:
زراعة الاراضي الصالحة للزراعة: زراعة الأشجار في المدن، كما في مبادرة “عمان الخضراء”، يمكن أن تقلل من درجات الحرارة بنسبة تصل إلى 4 درجات مئوية وتحسن جودة الهواء، مما يساهم في تقليل التبخر.
استعادة الأراضي الرطبة: من خلال إعادة تأهيل المناطق الرطبة، مثل تلك المحيطة بسد الكرامة، يمكن أن يعزز التغذية الجوفية ويخفف من الفيضانات. تجربة هولندا في إدارة الأراضي الرطبة توفر نموذجًا يمكن محاكاته.
التكنولوجيا الذكية:
أنظمة الإنذار المبكر: تطوير أنظمة متطورة لرصد الأحوال الجوية، كما في اليابان، يمكن أن يساعد في التنبؤ بالفيضانات والعواصف الرملية، مما يتيح اتخاذ تدابير وقائية.
إدارة الموارد المائية: خلال تدريبي في “مياهنا”، تعلمت كيفية استخدام أنظمة تحليل البيانات لتتبع استهلاك المياه وتقليل الهدر. يمكن توسيع هذه الأنظمة لتشمل شبكات ذكية تكتشف التسربات تلقائيًا، كما في تجربة مدينة برشلونة.
إعادة استخدام المياه الرمادية: بناءً على خبرتي، أقترح إنشاء محطات معالجة محلية للمياه الرمادية في التجمعات السكنية الكبرى. يمكن معالجة هذه المياه واستخدامها في ري المسطحات الخضراء، مما يقلل الضغط على الموارد العذبة. في الأردن، توفر محطات معالجة مثل محطة زي حوالي 102 مليون متر مكعب من المياه المعالجة سنويًا، تستخدم بشكل محدود في الزراعة. توسيع هذه المبادرات يمكن أن يعزز الأمن المائي.
رفع الوعي المجتمعي: مبادرة “Water Wise Women”، التي اطّلعت عليها خلال تدريبي، نجحت في تعزيز الوعي بترشيد استهلاك المياه في خمس مجتمعات محلية منذ عام 2007. يمكن توسيع هذه المبادرات لتشمل الشباب، الذين يشكلون نسبة كبيرة من السكان، من خلال حملات توعية في المدارس والجامعات.
أفضل الممارسات العالمية والمحلية:.
مشروع الناقل الوطني: يهدف هذا المشروع الأردني إلى تحلية مياه البحر في العقبة ونقلها إلى عمان، مما سيوفر 300 مليون متر مكعب سنويًا بحلول عام 2030. هذا المشروع يمثل خطوة استراتيجية لتعزيز الأمن المائي [6].
خاتمة
إن أزمة شح المياه في الأردن ليست مجرد تحدٍ بيئي، بل تهديد وجودي يتطلب تضافر الجهود الحكومية والمجتمعية. من خلال خبرتي كمهندس متدرب، أؤمن بأن تعزيز صمود المدن الأردنية يتطلب نهجًا شاملًا يجمع بين التخطيط العمراني المستدام، الحلول القائمة على الطبيعة، والتكنولوجيا الذكية. إن تبني حلول مثل إعادة استخدام المياه الرمادية، زراعة الغابات الحضرية، وتطوير أنظمة الإنذار المبكر لن يحمي مدننا من الظواهر المناخية القاسية فحسب، بل سيعزز الأمن المائي والغذائي للأجيال القادمة. دعونا نعمل معًا لجعل مدننا مرنة ومستدامة، حفاظًا على “إكسير الحياة” الذي يمثل شريان الوجود في بلدنا.
المراجع:
1. بعد جفاف السدود.. العجز المائي يطارد القطاعات الاقتصادية بالأردن | اقتصاد | الجزيرة نت
2. اسباب شح المياه في الاردن – حياتكِ
3. (1) Alwakeel News – الوكيل الإخباري on X: “البنك الدولي: شح المياه في الأردن يتفاقم بفعل فقدان كميات مياه كبيرة للبلديات https://t.co/kncByFjY4C #الوكيل_الاخباري #عاجل” / X
4. أزمة المياه في الأردن: هل من حلول استراتيجية؟ – BBC News عربي
5. سياسة الأردن المائية – ويكيبيديا
6. الأردن في مأزق بسبب أزمة المياه.. المشكلة تتصاعد والحكومة لا تجد حلولاً غير اللجوء لإسرائيل