سكين التغير المناخي تقطع أوردة ماضينا

سكين التغير المناخي تقطع أوردة ماضينا

لا تغيب عن ناظري تلك الصورة، في كل يوم وأنا اسير الى النهر القريب من منزلي حيث يتوجب علي ان اعبر تلاً ترابيا أصبح فيما بعد طريقاً يرتفع مترين ويمتد على مسافة طويلة بمحاذاة مجرى النهر، تم بنائه قبل عشرات السنين حاجزاً لترويض هذا العملاق الذي كان يغزو الارض المحيطة فيغرقها بمياهه الحمراء.

اليوم اعبر هذا التل فلا اجد النهر، أسير قليلاً فأجدني لا أصل مياهه حتى انزل عدة امتارٍ تحت سطح الارض المجاورة التي كانت تحت رحمة مياهه آلاف السنين.

تلك المياه الضحلة الملوثة التي لا تروي عطش النخيل ولا تروينا نحن اخوة هذا النخيل، ولا يُسمح لنا أن نأخذ من هذه المياه إلا بمقدار قليل يبل وجه الارض ولا يصل جذور النخيل الضاربة في عمق أرضنا.

أجد أني في مكان وزمان ارى فيه ثقافتنا وبيئتنا وأرضنا مهددة بالزوال، ارى سكين التغير المناخي تقطع أوردة الماضي التي تمدنا وتمد منطقتنا بدماء الإرث الحضاري المشترك الذي خرج من هذه الأرض.

كانت منطقة ما بين النهرين خاصة والعراق عامة مهداً للحضارات القديمة السومرية والاكدية والبابلية والاشورية وغيرها وقد سبقت غيرها بتقديم العلوم للبشرية، تلك العلوم التي تتسبب اليوم بالتغيرات المناخية وتهدد بفناء هذه الارض. لم تكن تلك الحضارات لتزدهر لولا درجات الحرارة المعتدلة والارض الخصبة والمياه الوفيرة فتم اختراع الكتابة هنا وتطوير الزراعة وبناء المدن المتطورة.(1)

 

لكني اليوم أنظر لبقايا الأنظمة الزراعية لتلك الحضارات من الحقول التي كانت خضراء تنبت من كل صنف طوال تلك الآلاف من السنين، اصبحت اليوم قاحلة جرداء ميته.

فآثار التغير المناخي ضربت بقوة هذه المنطقة، والتهديد يتجاوز مسألة تغيرات طفيفة بدرجات الحرارة بل إن تأثيراته تتعدى ذلك لتصبح أخطر وأشد، تتنبأ بعض الدراسات وسيناريو RCP 8.5 بأن نهري دجلة والفرات معرضان للجفاف في السنين القادمة حتى منتصف هذا القرن(2)، وهنالك تنبؤات تقول انهما قد يجفان تماما بحلول سنة 2040.(3)

وهذا يعني أن الارض التي اخذت حيزاً كبيراً من التاريخ وكانت تسمى ارض السواد لكثافة نخيلها ونباتها ستصبح ارض التراب والجفاف.

 

نهر الفرات بدأ ينحسر بشكل مخيف وحال نهر دجلة ليست افضل وكأن في انحسارهما صرخة استغاثة اخيرة، وقد كان اثر ذلك واضحاً على منطقة الاهوار التي تم ادراجها على لائحة التراث العالمي(4) والتي فقدت مساحات هائلة تسببت بموت الحيوانات والنباتات وهجرة سكانها، وهذا ينذر بكارثة بيئية وإنسانية وثقافية. وقد يمحو آثار الماضي العريق لهذه الارض وهو خسارة كبيرة للمنطقة وللإرث البشري في العالم، كل ذلك يجعلنا نشعر بأن قطع الصلة عن ماضينا بات امرأ واقعاً ولا مفر منه.

 

نحن نعلم أن التغيرات المناخية والاخطار المرتبطة بها لا تعترف بالحدود التي نرسمها بين الدول، كما أن التأثير الحضاري والاجتماعي والثقافي لهذه الارض انتشر ووصل الى جميع اجزاء المنطقة بلا حدود توقفه سوى الحدود الجغرافية، لذلك فزوال هذه المسطحات المائية والغطاء النباتي أيضاً سيؤثر بطريقة او بأخرى على طقس المنطقة عموماً، والدول العربية المجاورة وايران سيكون لها النصيب الأكبر من التأثيرات الناتجة هذا التغير بعد العراق وبطريقة يصعب التنبؤ بها.

 

عند النظر الى السماء ورؤية تلك الصبغة الرمادية من الغبار والدخان التي تبدو كغشاء يغطي السماء الزرقاء فنحن ندرك فطرياً اننا وصلنا مرحلة اللاعودة وأن الأجيال اللاحقة قد ترى ماهو اسوأ.

فنحن نقف على حافة التاريخ إذا نظرنا للوراء نرى عظمة ما انجزه آباؤنا على هذه الارض الخصبة والمياه الوفيرة والاجواء النقية، وإذا نظرنا للمستقبل نرى شبح الجفاف والحرارة يتربص بنا ليقطع كل ما يربطنا بماضينا ويقطع عن ابنائنا كل ما يربطهم بماضيهم (نحن).

 

لكن ما زال الامل موجوداً فرغم كل هذه الصعوبات إلا أن ضوء الأمل لم ينطفيء، مازالت الحلول ممكنة ونتائجها يمكن ان تؤخر او تبعد هذا الخطر المحدق بنا، أفكر في الحلول التي يمكننا تبنيها والعمل عليها، ليس بالأمر السهل لكنه ليس بالمستحيل.

 الحلول كثيرة تبدأ من المستوى الشخصي للفرد وتتصاعد حتى المستوى العام للمجتمع والدولة، انماط الاستهلاك المفرط التي تجذرت في ثقافتنا يجب ان نؤقلمها مع الوضع الراهن ونقلل من الأستهلاك غير المبرر لتخفيف الضرر على البيئة.

كذلك الحلول المتبناة من المجتمع العام والدولة يجب ان تكون على مستوى عالي بعد دراسة خاصة للوضع ومدى فاعلية الحلول، لا يتحمل الوضع اكثر من ذلك.

 

وبالعودة الى المستوى الشخصي الذي بدأت به هذه المقالة ولكوني من مجتمع زراعي ومدينة تأسست على اقتصاد زراعي في الاساس فإن هذه التغيرات في مستوى المياه ودرجات الحرارة ونسب التلوث العالية تهدد نمط حياتنا بشكل مباشر حيث بدأت تتحول البساتين القريبة من النهر الى مناطق سكنية والمزارع البعيدة بدأت بالتصحر والجفاف. ولا أرى أن الامر يتطلب كثيرا من الوقت حتى تتحول هذه المشاكل الى صراعات على الموارد بسبب شحتها حيث يتربص بنا شبح آخر.

 

وبعد كل شيء ما زالت لا تغيب عن ناظري تلك الصورة!

أي صورة؟ صورة لعدد من أشجار النخيل، تقاربني في العمر فقد زُرِعت في يوم ولادتي، لذلك ارى نفسي أخاً لهذه النخلات، كنت ارى هذه الاشجار وقد كانت تنمو طبيعياً بفضل توفر المياه ودرجات الحرارة المعتدلة قبل بضع سنين.

لكن اليوم بدأت تظهر على تلك الاشجار علامات العطش، قد لا يلاحظ ذلك احد وسيرى الاشجار بحال جيدة لكن من عاش مع النخيل يعرف جيداً ان الوضع تغير، يشعر بعطش ويحس بمعاناة النخيل في درجات الحرارة التي تفوق 52 درجة مئوية.

الصورة التي لا تغيب عن ناظري هي صورة التيبس في سعفات هذه النخلات، والتغير في طعم وحجم ثمارها، رغم ان هذه النخلات ما زالت في مرحلة الشباب كما أنا فهي بنفس عمرى.

لذلك اتسائل هل سيأتي اليوم الذي يعاني فيه اخوة النخيل ما تعانيه هذه النخلات؟ عندما يستمر الحال كما هو وتستمر التغيرات المناخية نحو الاسوأ فربما سيأتي يوم يقف فيه احفادنا في شبابهم وهم يتقلبون من الحرارة التي لا ترحم والعطش الذي لا ينتهي.

الرسالة التي يجب أن تصل هي أننا لا نمتلك رفاهية التأني في معالجة آثار التغيرات المناخية فقد تجاوزنا ذلك وأضعنا الفرصة، لكننا نمتلك الفرصة الاخيرة لأيقاف هذه التغيرات ومنعها من قطع اوردة ماضينا التي تمدنا بدماء تحيي مستقبلنا.

 

الكاتب: حسن هادي مدلول

Work Cited

  1. “موجز تاريخ العراق القديم.” الجزيرة نت, 3 October 2004, https://www.aljazeera.net/2004/10/03/%D9%85%D9%88%D8%AC%D8%B2-%D8%AA%D8%A7%D8%B1%D9%8A%D8%AE-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%B1%D8%A7%D9%82-%D8%A7%D9%84%D9%82%D8%AF%D9%8A%D9%85. Accessed 16 October 2024.
  2. تقرير تقييم تغير المناخ العربي الصادر عن لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا (الإسكوا) في عام 2022
  3. Al-Ansari, N., Ali, A. A., & Knutsson, S. (2014). Present Conditions and Future Challenges of Water Resources Problems in Iraq. Journal of Water Resource and Protection, 6(12), 1066-1098.
  4. رابط مباشر لصفحة اهوار العراق على الموقع الالكتروني الخاص بالتراث العالمي لليونيسكو
    https://whc.unesco.org/en/list/1481

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *