حين يدق المناخُ ناقوسَ الخطر، تمدُّ الحداثة يدها وتبوحُ الطبيعة بأسرار النجاة

د.أسيد ماهر دويكات_ فلسطين

نقلة نوعية عكسية، تخوضها الدول العربية؛ من مهد حضارات، وإشعاع ثقافي لامع، إلى مواجهة ظواهر مناخية قاسية، بين موجات الحرّ من جهة، وفيضانات قاتلة من جهة أخرى. هذا مفترق طرق حاسم؛ فالهاوية مصير محتّم إذا لم تُعَدّ العدّة اللازمة. فكيف لها أن تستعدّ لمستقبلٍ مجهول؟ وما الطرق المرِنة المستدامة الكفيلة بالحفاظ على التكيّف؟
لا شكّ أن التخطيط المُحكَم والمدروس لحضارة مستدامة هو الركيزة لبناء مدنٍ صامدة أمام أمواج التغيّر المناخي الغادرة؛ إذ لا بدّ من نهجٍ شمولي، يجمع بين الاعتبارات البيئية والتخطيط العمراني، بحيث تُؤسَّس المدن بطريقة تُقلل من انبعاثات الكربون وتُعزّز من كفاءة استخدام الموارد.
إن إنشاء مساحاتٍ خضراء واسعة، وتطوير نُظم نقل عام فعّالة ومستدامة، وتبنّي معايير بناء صديقة للبيئة، كلّها خطوات تُسهم في تقليل التأثيرات السلبية للتغيّر المناخي، وتُعزّز من قدرة المدن على التكيّف.
من خلال تبنّي مبادئ التخطيط المستدام، يمكن الارتقاء بالبنية التحتية بما يعزز قدرتها على مجابهة تحديات المستقبل، وذلك عبر تحسين أنظمة الري وتطوير مشاريع إسكان ذكية توظّف أحدث التقنيات لتقليل استهلاك الطاقة. فعلى سبيل المثال، تُعدّ الطاقة الشمسية موردًا استراتيجيًا في الدول العربية، نظراً لغزارة الإشعاع الشمسي، ما يتيح إمكانية واسعة لتركيب الألواح الشمسية على أسطح المباني، لتوليد طاقة نظيفة ومستدامة. كما يُمكن تعزيز كفاءة الطاقة من خلال تحسين العزل الحراري للمباني، مما يسهم في تقليص الحاجة إلى التبريد الاصطناعي، ويوفّر موارد الطاقة ويحمي البيئة في آنٍ معًا.
في سعيها الحثيث لمواجهة التحديات المناخية المتصاعدة، تستطيع المدن العربية أن تستلهم من الطبيعة نفسها حلولًا مبتكرة تتسم بالاستدامة والفعالية. تُعرف هذه المقاربات بـ”الحلول القائمة على الطبيعة”، وهي استراتيجيات توظف النُظُم البيئية والعناصر الطبيعية لتعزيز المرونة الحضرية والتكيف مع تغيّر المناخ.

فعلى سبيل المثال، يمكن إنشاء حدائق عمودية تُغطي واجهات المباني، لتعمل كمصائد طبيعية لثاني أكسيد الكربون، وتُخفف من حدة ظاهرة الجزر الحرارية في المناطق الحضرية. كما يُمكن إعادة تأهيل الأنهار والمجاري المائية القديمة لتُعيد أداء دورها الطبيعي كقنوات تصريف خلال مواسم الأمطار والفيضانات، مما يُقلّل من مخاطر الكوارث المائية ويُعزّز من قدرة المدن على الصمود في وجه التقلبات المناخية.
إضافةً إلى ذلك، تمثل أسطح المباني مساحات حضرية واعدة يمكن تحويلها إلى حدائق خضراء تؤدي دورًا بيئيًا مزدوجًا؛ فهي لا تضيف بعدًا جماليًا للمشهد العمراني فحسب، بل تسهم أيضًا في امتصاص مياه الأمطار الزائدة، مما يحدّ من مخاطر الفيضانات المفاجئة.
هذه المساحات المزروعة تعمل كعوازل حرارية طبيعية، تخفف من شدة الحرارة في البيئات الحضرية، وتُساهم في تنظيم المناخ المحلي. كما يُمكن توسيع نطاق التشجير الحضري من خلال زراعة أنواع مختارة من الأشجار والنباتات التي تُحسن جودة الهواء، وتمتص الملوّثات، وتوفر بيئة أكثر صحة وراحة للسكان، في انسجام تام بين الطبيعة والتخطيط الحضري.
لا يمكن إغفال الدور الحيوي الذي تؤديه التكنولوجيا الذكية في تمكين المدن من التكيف بكفاءة مع التحديات المناخية المتسارعة. إذ باتت الأنظمة الرقمية المتقدمة، مثل تقنيات الاستشعار الفوري والذكاء الاصطناعي، بمثابة أدوات استراتيجية لرصد وتحليل المؤشرات البيئية لحظة بلحظة، والتنبؤ بالكوارث الطبيعية قبل وقوعها، مما يمنح صانعي القرار فرصة اتخاذ تدابير وقائية مبكّرة.
علاوة على ذلك، تُعدّ تكنولوجيا المعلومات ركيزة أساسية في بناء منظومات استجابة ذكية وسريعة للكوارث الطبيعية. فمن خلال تطوير نُظم متقدمة لتخزين البيانات وتحليلها بالزمن الحقيقي، تُصبح عملية اتخاذ القرار أكثر دقة وفعالية في لحظات الأزمة، ما يُعزز من كفاءة إدارة المخاطر.
وباستخدام المنصات الرقمية والتطبيقات الذكية، يمكن إيصال التحذيرات والتنبيهات المناخية إلى المواطنين بسرعة وسهولة، مما يُمكنهم من اتخاذ الإجراءات الوقائية المناسبة، سواء بإخلاء المناطق المعرّضة للخطر أو الاستعداد لتقلبات الطقس. هكذا، تتحول التكنولوجيا إلى خط الدفاع الأول، ليس فقط لحماية البنية التحتية، بل لحماية الإنسان ذاته.

إن بناء مدنٍ قادرة على التكيّف والصمود لا يتحقق بالتخطيط الحضري والتكنولوجيا الذكية فحسب، بل يستوجب أيضًا الاستثمار في الإنسان، من خلال تعزيز الوعي المجتمعي وترسيخ ثقافة المشاركة الفعّالة. فحين يكون المجتمع مُدركًا لتحديات التغير المناخي، يصبح شريكًا حقيقيًا في مواجهة تلك التحديات، وقادرًا على تبني سلوكيات مستدامة تنعكس إيجابيًا على البيئة وجودة الحياة.
ولهذا، ينبغي أن تتضمن استراتيجيات التكيّف المناخي برامج تثقيفية وتوعوية متنوعة، تُشرك الأفراد في صياغة الحلول البيئية وتُعزز من إحساسهم بالمسؤولية الجماعية. سواء عبر المدارس، أو الإعلام، أو مبادرات المجتمع المدني، فإن إشراك الناس في القرار البيئي يُحوّل التحدي إلى فرصة لبناء مدن أقوى، وأكثر مرونة، واستدامة.
هذه الأنشطة لا تقتصر على نقل المعرفة فحسب، بل تُحفّز التفاعل المجتمعي وتُرسّخ السلوكيات البيئية الإيجابية. فبفضل تعزيز الوعي البيئي، تتحول المجتمعات إلى فاعل أساسي في مواجهة التغير المناخي، من خلال ممارسات يومية بسيطة لكنها مؤثرة، تُمهد الطريق نحو مدنٍ أكثر خضرة، وأنظف هواءً، وأقرب للإنسان والطبيعة على حد سواء.
رغم الزخم المتصاعد في الجهود المبذولة لمجابهة آثار التغير المناخي، يبقى الواقع الراهن مليئًا بالتحديات المعقّدة التي تُعيق مسار التقدم نحو مدن أكثر استدامة. فعلى سبيل المثال، يُعدّ تحقيق التخطيط الحضري المستدام أمرًا بالغ الصعوبة في بعض المناطق التي تشهد تزايدًا سكانيًا متسارعًا ونموًا عمرانيًا غير مُنظم، مما يُثقل كاهل الموارد والخدمات المتوفرة.
هذه التحديات تضع المدن أمام معادلة صعبة: كيف تُخطط للمستقبل وهي تُكافح من أجل تلبية احتياجات الحاضر؟ وهنا تبرز الحاجة الملحة لتضافر الجهود، محليًا ودوليًا، لضمان تمويل المشاريع الخضراء، ونقل التكنولوجيا، وبناء القدرات، بما يُمكّن المدن العربية من أن تتحول من بؤر هشّة إلى نماذج حضرية تواكب متطلبات المناخ الجديد.
إن أحد أبعاد الاستعداد لمستقبل مناخي متطرف هو الاستثمار في التعليم والتدريب، حيث يعد تعزيز الوعي البيئي وتنمية المهارات المستدامة من أولويات الاستراتيجيات التي يجب أن تعتمدها المدن. ففي ظل التغيرات المناخية المتسارعة، يصبح من الضروري إعداد جيل جديد من الأفراد القادرين على التعامل مع هذه التحديات بفعالية. يجب أن تركز المناهج التعليمية على التغير المناخي وأثره على البيئة، بما في ذلك مفاهيم الاستدامة، والطاقة المتجددة، والزراعة الذكية.
بالإضافة إلى ذلك، ينبغي توفير برامج تدريبية متخصصة لتأهيل القوى العاملة في قطاعات البناء والتخطيط الحضري على استخدام تقنيات صديقة للبيئة وأساليب التكيف مع التغير المناخي. ذلك يشمل تدريب المهندسين المعماريين والمخططين العمرانيين على تصميم المباني الخضراء، واستخدام تقنيات البناء التي تقلل من استهلاك الطاقة والموارد. من خلال هذا الاستثمار في التعليم والتدريب، يمكن للمدن العربية أن تطور بيئة عمل متجددة تواكب التحديات البيئية، وتخلق فرصًا اقتصادية جديدة تسهم في تحقيق التنمية المستدامة.
و لا بد من التعاون الإقليمي والدولي لمواجهة التحديات المناخية التي تؤثر على المدن. فالتغير المناخي لا يقتصر على حدود مدينة أو دولة واحدة، بل هو قضية عالمية تتطلب تكاتف الجهود على مستويات متعددة. لذلك، يجب على الدول العربية أن تلتزم بالاتفاقيات الدولية الخاصة بتغير المناخ، مثل اتفاقية باريس للمناخ، وتبني سياسات مشتركة تساهم في تقليل الانبعاثات وتعزيز المرونة المناخية.

يمكن للعالم العربي أن يستفيد من تجارب الدول الأخرى في التكيف مع التغيرات المناخية، من خلال تبنّي التكنولوجيا الحديثة في إدارة المياه والزراعة المستدامة، والتعاون مع المؤسسات الدولية لتمويل مشاريع التنمية. بتبادل الخبرات، تمضي المدن العربية نحو مستقبل أفضل، فالحاضر يبنيه جيله الشاب المؤمن بمستقبل واعد كذاته، ليوافق هواه وطموحاته البناءة.

 

https://www.ibm.com/sa-ar/think/topics/climate-resilience?utm_source=chatgpt.com

دور المدن الذكية في الحد من آثار التغير المناخي

https://www.ibm.com/sa-ar/think/topics/climate-resilience?utm_source=chatgpt.com

https://sigmaearth.com/ar/التخطيط-الحضري-المستدام-من-أجل-المرونة-المناخية/?utm_source=chatgpt.com

https://blogs.worldbank.org/ar/voices/mdn-mqawmt-lsdmat-almstqbl-kyf-ytmd-azdharna-ghda-ly-ahdath-thwl-fy-almdn-alywm

https://unhabitat.org/sites/default/files/download-manager-files/Cities%20and%20Climate%20Change%20Global%20Report%20on%20Human%20Settlements%202011%20-%20ABRIDGED%20%28ARABIC%29%20%282%29.pdf

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *