المدينة الفاضلة مناخياً: لن يحكمها الفلاسفة! بل ستحكمها رغبة البقاء والوجود في ظل التغيرات المناخية
بقلم حسن هادي مدلول
المقدمة
كانت المدينة الفاضلة أو جمهورية افلاطون من أفكار الفيلسوف الاغريقي افلاطون حيث يحكمها الفلاسفة ويسودها العدل والرخاء، وهي نظرية فقط فتطبيقها شبه مستحيل بسبب أطماع البشر ورغباتهم او لاختلاف أفكارهم.
لكن هل يمكن تطبيقها من زاوية اخرى عندما نتجه نحو المدينة المتكيفة مع التغير المناخي، وصولاً الى المدينة الفاضلة مناخياً التي لن تؤثر بل ستدعم الاعتدال المناخي؟ لكي نفهم ذلك علينا أن نحلل إمكانية تطبيقها فيجب أن ننظر أولاً الى قوة الدافع لهذه الفكرة فالدافع هنا مختلف وبالنتيجة مسار تحقيقها مختلف، حيث تدفعها ضرورة وأحداث غير مسبوقة تجبرنا أن نقترب من فكرة المدينة الفاضلة مناخياً بسبب الرغبة في البقاء والازدهار لأن التهاون في تنظيم وتكييف مدننا مناخياً يعني الاتجاه نحو مصيرِ ومستقبلٍ مظلم.
كيف تكون المدينة فاضلة مناخياً أو قادرة على التكيف والصمود؟
المدينة الفاضلة مناخياً ليست نظرية لمدينة مثالية او خيالية وليست مجرد مكان، بل هي طريقة عيش وهي نموذج عملي متكامل لمدينة تتمتع بالمرونة المناخية الكافية. فإذا حققت المدينة توازناً بين الرفاهية والاستدامة، وحققت الصمود مع العدالة الاجتماعية فهي مدينة فاضلة مناخياً.
ولتتحول أي مدينة الى مدينة فاضلة مناخيا فهي تحتاج ان تطبق بعض الحلول التي تعزز مرونتها المناخية وتجعلها قادرة على التكيف وعلى استباق الاحداث والاخطار، والتعافي السريع بعد الازمات. وتتضمن هذه الحلول تخطيطاً مستداماً وحلولاً تكنولوجية ذكية وحلولاً أخرى قائمة على الطبيعة. ويكون ذلك مع عدالة مناخية في توزيع الموارد وحماية الفئات الهشة وضمن مجتمعٍ واعٍ مشارك وإدارة سياسية وعلمية طموحة، وهو ما يمكن ان يتحقق بوجود الدافع القوي والضرورة الحتمية التي تتمثل بالتغيرات والاخطار المناخية.

الركائز الأربع للقدرة على الصمود وفقا لتقييم سجل معهد توريس للقدرة على الصمود – المصدر UNDRR
المشاكل والتحديات التي تواجه مدننا
عندما نريد ان نحول مدننا العربية الى مدن فاضلة مناخيا فمن المؤكد سوف تواجهنا مشاكل عديدة تعرقل هذا التحول. وكل تلك المشاكل تزداد مع زيادة اعداد السكان في المدن، فإذا رجعنا الى تقرير صادر عن البنك الدولي (Thriving 2023) سنجد أن عدد سكان المدن ما بين 1970 الى 2021 قد ارتفع من 1.19 مليار الى 4.46 مليار. وبحلول عام 2050 ستكون المدن موطناً لحوالي 70% من سكان العالم.
إن زيادة سكان المدن تؤثر سلبا على قدرتها وفعاليتها وصمودها في مواجهة التغيرات المناخية، ومن جانب اخر فنحن نتجه نحو فقدان الرابط القديم والمتأصل مع بيئتنا وتراثنا إذا انتقلنا الى مدن لا تراعي الرابط الاجتماعي والنفسي والحيوي مع البيئة الطبيعية بشكل جاد كما هو الحال في اغلب مدننا الان، وهو ما يؤدي الى سلسلة من المشاكل والتحديات التي تؤثر بالإنسان والمناخ بصورة مباشرة.
- مشاكل سلوكية واجتماعية
قد يكون سلوك الانسان طرفاً مؤثرا في المشاكل التي تواجه المدن، فالإنسان بطبيعته يحتاج الى تواصل حي ومباشر مع الطبيعة وهو ما يفتقده في المدن التقليدية التي لا تقدم تصميماً معمارياً يراعي هذا الجانب. وهذا له أثر نفسي وعاطفي واضح في سلوك الانسان والمجتمع بحسب (الباحثة هالة احمد الخرابشة). فالمدينة التي لا تتكيف مع المتغيرات ولا تستوعب الزيادة السكانية مع توفير حد أدنى من الاستدامة ستوفر بيئة اجتماعية خطرة تؤدي الى سلوكيات تجعل الانسان يولي اهتماماً اقل بالبيئة المحيطة والمناخ ككل وتقل فعالية الجهود التي توجه المجتمع الى الترشيد والاستخدام الأمثل للموارد.
فضلاً عن توفر بيئة تدعم سلوكياتٍ أكثر خطراً مثل تكوين جماعات مسلحة وحصول نزاعات وحروب على مستوى اوسع يمكن ان تدمر جهودَ وعملَ سنواتٍ من العمل المناخي لأنها ستزيد نقاط الضعف مثل هشاشة البنى التحتية وإيجاد مجتمعات هشة وضعيفة.
- تحديات التصميم والتخطيط الحضري
ليس فقط سلوك الانسان يمثل تحدياً للمدن، بل إن تصميم وتخطيط المدن بشكل يتلائم مع متغيرات غير ثابتة خصوصاً في منطقتنا العربية من جفاف وعواصف ترابية وشحة المياه والنزاعات يمثل تحدياً صعباً يحتاج دراسة عميقة لطبيعة المنطقة والمدن القديمة وطرق تأقلمها مع التغيرات.
ولكون هذه التحديات تختلف من منطقة الى أخرى سنذكر اكثرها شيوعاً وهي تحديات مشتركة في الغالب بين المدن العربية، فأول هذه التحديات هو الوصول واستخدام المياه في منطقة تصنف أنها أكثر المناطق ندرة في المياه في العالم، إذ يبلغ متوسط استخدام الموارد المائية في المنطقة العربية 76.6% مقارنة بالمتوسط العالمي البالغ 7.5% (UN-Habitat 2021) وهذا يوضح مقدار التحدي التصميمي للمدن في المنطقة.
إضافة لذلك يبدو أن التخطيط والتصميم في المنطقة لم يكن يراعي المساحات العامة بشكل رئيسي فأصبحت نسبة المساحات العامة في المدن العربية تمثل تحدياً اخر اذ تقدر بـ 2% فقط من إجمالي المساحة وذلك في عام 2016 في حين كان متوسط المساحات العامة للمدن الأوروبية 12% من مساحتها (Arab AID,UNDP 2017).
هذا وإن الكثير من المدن العربية تفتقر الى إمكانية الوصول الى بعض الخدمات الأساسية كالإدارة الفعالة للنفايات، والصرف الصحي المناسب، ووسائل النقل العام، وأمور أساسية أخرى (UN-Habitat 2022 – 2025).
- تحديات المرونة والاستجابة السريعة
نظرا لأن أغلب مدننا تقع في مناطق تعاني تغيرات متسارعة فلذلك من الضروري ان تمتلك المرونة الكافية والاستجابة السريعة للتغيرات. وهذا يضع عبئاً أكبر على الموارد بجميع أنواعها إذ يجب ان تكون مستعدة لأي تغير في أي وقت مع وجود صعوبة أكثر في التنبؤ بالتغيرات واوقاتها وسرعة حدوثها. فالمدن التي تقع في مناطق أخرى من العالم أكثر استقراراً مناخياً واقتصادياً وسياسياً ليست مضطرة الى توجيه نسبة كبيرة من مواردها لغرض الاستجابة السريعة وتحقيق المرونة بوجه التغيرات على العكس من مدننا العربية.
الحلول الممكنة للمشاكل التي تواجه مدننا
كما استعرضنا التحديات في هذه المقالة سنبين الحلول أيضا ونستعرض نماذج ناجحة لنصل الى درجة من التكامل تجعل من القارئ على دراية بالمشاكل وحلولها وإمكانية تطبيقها.
- توظيف الثقافة لتوعية وتوجيه المجتمعات
شعوب المنطقة هي شعوب اصيلة متكيفة مع التغيرات والاحداث في المنطقة منذ الاف السنين وقد ولّدت ثقافة عامة ومشتركة هي في كثير من الأحيان استجابة لمتغيرات مناخية او اقتصادية او اجتماعية، وتعزيز هذه الثقافة وحمايتها قد يوّلد وعي اجتماعي او ممارسات وسلوكيات اجتماعية تدعم وجود المدن المتكيفة وتخلصها من خسارة الوقت والموارد في محاولة إدارة السكان وصناعة ثقافة بيئية جديدة.
فبدلاً من محاولة تطبيق ثقافة مناخية جديدة يجب دراسة هذه الثقافات الاصيلة وتعزيزها وتطبيق برامج لتطوير بعض السلوكيات الإيجابية المتوارثة (مثل ترشيد استهلاك المياه عند سكان الصحراء، البناء بمواد محلية عند سكان القرى…الخ) ونشرها وهو ما سيكون تقبله سهلاً لأنه مألوف عند السكان وهو من صلب ثقافتهم ومتوافق تماماً مع بيئتهم.

مدينة شبام في اليمن مثال عن التأقلم مع البيئة والالتزام بالثقافة
- تشجيع الابداع والابتكار الشبابي في التخطيط وإدارة المدن
يتقدم العالم بخطوات ثابتة نحو اشراك الشباب في تخطيط المدن وتقديم حلول لمشاكلها، إذ يدرك العالم أن الشباب يشكلون أحد اهم الركائز الأساسية التي تقوم عليها مدن المستقبل.
أما في منطقتنا العربية فيجب أن يدرك الشباب أنهم قد يكونون الحل الوحيد الذي نمتلكه، فالمسألة لا تتعلق بموضوع اشراك الشباب او دعم أفكارهم فقط، بل ان المسألة تتعدى ذلك لمرحلة قد نحتاج فيها الى إدارة شبابية كاملة وأفكار شبابية تشكل وقوداً يدفعنا الى بر الأمان. والذي يقرأ تاريخ المنطقة يجد أن أكثر الشخصيات التي صنعت تغييراً وغيرت وجه المنطقة قد بدأوا في مرحلة الشباب.
وهكذا فتنظيم الدورات التي تطور قدرات الشباب حل فعال، لكن الحل الأكثر فعالية والذي سينقل مدننا نحو الهدف الأسمى هو إنشاء مبادرات تتخصص في البحث عن الشباب القادرين على صنع التغيير والوصول إليهم ودعمهم ونقلهم الى مستويات تمكنهم من تقديم ابتكاراتهم في تخطيط المدن والتكيف الإدارة الذكية.
- تحديث طرق الإدارة
لا يمكن تطبيق الحلول بالشكل الامثل دون تغييرات جادة في الطرق التي تدار فيها المدن والعمليات المرتبطة بها، فالتكيف والمرونة والاستجابة السريعة تتطلب تغييرات مهمة وتطوير في طرق الإدارة وإدخال تقنيات حديثة كالحلول القائمة على الذكاء الاصطناعي وانترنت الأشياء. ومن أبرز الأمثلة على أهمية الإدارة هي سنغافورة التي تمتلك مساحة محدودة وموارد محدودة لكنها اعتمدت نهجاً إداريا يتضمن التكنولوجيا الحديثة والدراسات الدقيقة والإرادة الصلبة حتى أصبحت نموذجا مهما في الاستدامة.
وهكذا فمن الواجب علينا في المنطقة العربية ان نفكر في استثمار التقنيات الحديثة وخصوصاً تقنيات الذكاء الاصطناعي والحلول القائمة على استخدامه للمساعدة في إدارة المدن حتى نصل في النهاية الى النقطة التي نستطيع فيها اعتبار هذه المدن (مدن فاضلة مناخياً).
- استخدام الطبيعة كحل دائم
إضافة لما سبق هنالك حلول اثبتت نجاحها عبر التاريخ وهي الحلول القائمة على الطبيعة، والامثلة التاريخية على ذلك كثيرة في المدن العربية والإسلامية من بغداد في العصر العباسي الى قرطبة في الاندلس، وأمثلة كثيرة في اليمن والمغرب وغيرها. وصولا الى الأمثلة الحديثة مثل حدائق مشرف في الامارات، ومشاريع الحزام الأخضر.
كل ذلك توكيد على أهمية الحلول القائمة على الطبيعة من زراعة أشجار محلية مقاومة، لصد الرمال او استخدام تكوينات صخرية لخرن المياه وصولاً الى تكثيف الزراعة في مناطق محددة حول وضمن المدن، وغيرها من الحلول الذكية.
دراسات حالة ناجحة ومشاريع مستقبلية طموحة
الحالات الناجحة والطموحة كثيرة في العالم وفي المنطقة العربية التي تعد غنية جدا من هذا الجانب.
مشروع الرياض الخضراء
أحد اهم المشاريع الطموحة التي تعمل عليها الحكومة السعودية لزيادة نصيب الفرد من المساحات الخضراء وبالاعتماد على موارد مائية قليلة نسبيا لكن بإدارة ذات فعالية عالية وبمساعدة التكنولوجيا وحلول قائمة على الطبيعة قد تكون الرياض من أوائل الواصلين الى تحقيق نموذج يحتذى به في الاستدامة والتكيف المناخي.

برنامج الرياض الخضراء
سنغافورة
التي انتقلت من مدينة تعاني ندرة في الموارد الى مدينة رائدة عالميا بفضل بعض الممارسات التي دفعتها الى أن تكون نموذجاً مثالياً للاستدامة بفضل الإدارة والإرادة التي جعلتها تحافظ على 47% مساحة خضراء رغم الكثافة السكانية العالية، وتمكنت بفضل إدارة المياه من معالجة 100% من مياه الصرف الصحي وإعادة استخدامها والاستثمارات في التكنولوجيا الذكية من أنظمة النقل الكهربائي العام الى انظمة الذكاء الاصطناعي التي تتنبأ بالفيضانات والمرور وغيرها.

مبنى سكني بتصميم مستدام في سنغافورة – المصدر CNN
مدينة مصدر الإماراتية
تدمج بين التكنولوجيا الحديثة والتصاميم التقليدية المستمدة من الثقافة المحلية التي توفر حلول أخرى للمناخ الحار بتصميم معماري يقلل من الحاجة الى التبريد. تعتمد الطاقة الشمسية بنسبة 100% وهي خالية من الكاربون، ضمن رؤية الامارات لتحقيق صافي الصفر من انبعاثات الكاربون في 2050 وهو أحد صفات المدن الفاضلة مناخياً.
خاتمة ودعوة
في النهاية عرفنا أن هنالك بالفعل بعض النماذج الحية للمدن التي اقتربت من ان تكون فاضلة مناخيا او انها اصبحت فاضلة مناخيا على مستوى محدود، وبعد أن ازلنا صبغة الخيالية عن هذه الفكرة ونقلناها الى مساحة التطبيق، فهذه دعوة لشبابنا ولحكوماتنا أن تتخذ من دراسات الحالة الناجحة طريقاً ومن أفكار الشباب محركا لنصل الى النقطة التي تصبح فيها مدننا فاضلة مناخيا.
- UNDRR, RAR. تقرير التقييم الإقليمي للحد من مخاطر الكوارث في المنطقة العربية 2021
- Mukim, Megha, and Mark Roberts, editors. 2023. Thriving: Making Cities Green, Resilient, and Inclusive in a Changing Climate. Washington, DC: World Bank. doi:10.1596/978-1-4648-1935-3. License: Creative Commons Attribution CC BY 3.0 IGO.
- المجلة الدولية لنشر الدراسات العلمية، المجلد الخامس عشر – العدد الثالث – البحث التاسع والعشرون (ص: 282 – 290) “التأثير المتبادل بين هندسة العمارة والانسان”، هالة احمد الخرابشة.
- UN-Habitat, “World Cities Day celebrations at Expo 2020 Dubai,” UN-Habitat, 30 October 2021.
- Arab Development Portal, “Arab Region in Review 2017,” Arab AID and UNDP, 2017.
- UN-Habitat Regional Office for Arab States Climate Change Strategy for the Arab Region 2022 – 2025
- الرياض الخضراءhttps://www.rcrc.gov.sa/ar/projects/green-riyadh/
- هيئة البيئة السنغافوريةhttps://www.nea.gov.sg/
- برنامج المدن الذكية السنغافوريhttps://www.smartnation.gov.sg/