لم يعد التغير المناخي مجرد حديث يتردد في المؤتمرات أو عبر وسائل الإعلام، بل أصبح واقعًا نعيشه يومًا بعد يوم، ونشعر بآثاره في تفاصيل حياتنا. وأيضاً لم يعد الأمر محصورًا في ذوبان الجليد أو ارتفاع منسوب البحار، بل بات يطرق أبوابنا من خلال صحتنا وسلامتنا الجسدية والنفسية.
فالتغير المناخي لا يؤثر على البيئة فحسب، بل يُعدّ تهديدًا مباشرًا لصحة الإنسان، فنحن جزء لا يتجزأ من هذا الكوكب، وأي خلل يصيبه لابد أن ينعكس علينا. ومع ارتفاع درجات الحرارة وتلوث الهواء والمياه، نشهد زيادة في الأمراض المنقولة عبر الغذاء والمياه، وانتشار الأوبئة، وتفاقم أمراض الجهاز التنفسي، خصوصًا لدى الفئات الأضعف والأكثر هشاشة.
في منطقتنا العربية، وتحديدًا في الشرق الأوسط، حيث تتشابك الأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، تبدو آثار التغير المناخي أكثر قسوة. فهذه المنطقة تُعد من أكثر المناطق تأثرًا بالمناخ، بالرغم من مساهمتها المحدودة في انبعاثات الغازات الدفيئة. وتشير تقديرات منظمة الصحة العالمية إلى احتمال تسجيل ما يقارب 250 ألف حالة وفاة سنويًا بحلول عام 2050 نتيجة للأمراض المرتبطة بتغير المناخ، كالإسهالات، والملاريا، وأمراض الجهاز التنفسي، وسوء التغذية.
العقل البشري وأزمة المناخ: بين الإنكار والأنانية
يميل الإنسان بطبيعته إلى التركيز على ما يهدده بشكل مباشر وفوري، ويتجاهل غالبًا المخاطر التي تتسلل ببطء ولا تظهر آثارها إلا مع مرور الوقت. هذا النمط السلوكي يُعرف في علم النفس بـ”التحيّز للحاضر”، وهو من أكبر العقبات التي تواجه الجهود المبذولة لرفع الوعي بأزمة المناخ. فالناس تميل إلى اتخاذ قرارات سريعة تُفضّل المكافآت الفورية، حتى وإن كانت على حساب مستقبلهم أو مستقبل الأجيال القادمة.
وفي هذا السياق، لا يشعر كثيرون بأن التغير المناخي خطر وشيك، لأنه لا يُظهر نفسه بنفس الطريقة الصادمة التي تظهر بها الكوارث المفاجئة، كالزلازل أو الحوادث. التأثيرات المناخية تتراكم بصمت، وتتمدد في حياة الناس دون أن تطرق الأبواب بصوتٍ عالٍ.
تُضاف إلى ذلك نزعة بشرية أخرى لا تقل خطورة، وهي الأنانية. فالشخص الذي لا يكترث بصحته، أو لا يرى أهمية في تغيير عاداته اليومية من أجل بيئة أفضل، يصعب إقناعه بالتفكير في صحة كوكبٍ يعيش فيه الجميع. إن التركيز على اللحظة الراهنة والمصلحة الفردية يُضعف القدرة على تبنّي رؤية جماعية لمواجهة التحديات البيئية، ويجعل من تحقيق التغيير أمرًا يحتاج إلى وعي عميق وجهد مستمر.
أهمية تجارب ملموسة لزيادة الوعي
من هنا تأتي أهمية ايصال المشكلة للناس بطريقه تمسهم لتجعل تأثيرات التغير المناخي أكثر وضوحًا لديهم، بحيث يشعر بها على نحو شخصي، ويراها جزءًا من حياته اليومية. التوعية البيئية لا يجب أن تقتصر على الأرقام والبيانات والمؤتمرات، بل يجب أن تخاطب الإنسان مباشرة وتربط بين القضية البيئية وقضاياه الخاصة. فعلى سبيل المثال، كما يشعر الفلسطيني أن قضيته الوطنية تمسه شخصيًا، يجب أن يشعر كذلك بأن التغير المناخي قضية تمسه، تمس صحته، وتهدد مستقبله. مثال على ذلك هو تجربة المرضى الذين يعانون من مشاكل تنفسية بسبب التلوث الهوائي الناجم عن التغير المناخي. في بعض المستشفيات، نرى المرضى الذين يزورون أقسام الطوارئ نتيجة للأزمات التنفسية الناجمة عن تلوث الهواء وارتفاع درجات الحرارة. هؤلاء المرضى يختبرون آثار التغير المناخي بشكل مباشر على صحتهم. ففي لحظة معاناتهم من صعوبة التنفس أو زيادة نوبات الربو بسبب تلوث الهواء أو العواصف الرملية، يدركون العلاقة المباشرة بين تدهور البيئة وصحتهم. هذه التجربة الملموسة تجعلهم أكثر وعيًا بما يحدث من حولهم وتزيد من حساسيتهم تجاه قضية التغير المناخي، مما يعزز ضرورة التحرك للتوعية والوقاية.
الكوادر الصحية صوت البيئة الغائب
عند الحديث عن الصحة العامة وتوعية المواطنين، لا يمكن تجاهل الدور الجوهري الذي يلعبه العاملون في القطاع الصحي، خاصة في ظل تزايد التحديات المرتبطة بالتغير المناخي. ولكن يبرز هنا تساؤل مهم: هل يشكّل موضوع التغير المناخي والصحة البيئية أولوية فعلية لدى العاملين الصحيين؟ رغم وعيهم العام بالقضايا الصحية، إلا أن العاملين في هذا القطاع ليسوا بمنأى عن التحيّزات النفسية والسلوكية التي تجعل كثيرين منهم يغفلون عن أهمية أن يكونوا جزءًا من الخطاب المناخي والدفاع البيئي.
فعلى الرغم من الجهود الكبيرة المبذولة في المؤتمرات الدولية المتعلقة بالمناخ، مثل مؤتمري كوب وبون، ورغم وجود إشارات إلى التأثيرات الصحية، إلا أن البعد الصحي لا يزال هامشيًا في هذه المحافل التي تركز غالبًا على الجوانب البيئية والاقتصادية. هذا التهميش لا يعود فقط لقصور في أجندات المؤتمرات، بل أيضًا لغياب الصوت الصحي المؤثر في هذه الساحات.
إن السياسات الصحية ما زالت بعيدة عن الاندماج الفعّال مع استراتيجيات التكيف المناخي، نتيجة لضعف تمثيل المتخصصين الصحيين في نقاشات المناخ. تمامًا كما يكثر الحديث عن الطاقة المتجددة والاقتصاد الأخضر لأن المتخصصين في هذه المجالات حاضرون بقوة، فإن غياب العاملين في القطاع الصحي عن تلك النقاشات يحجب التركيز عن العلاقة الحاسمة بين التغير المناخي وصحة الإنسان، رغم أن هذه العلاقة باتت أكثر وضوحًا وإلحاحًا من أي وقت مضى.
تحديات الكوادر الصحية في مواجهة أزمة المناخ
رغم التصاعد الكبير في المخاطر الصحية المرتبطة بالتغير المناخي، إلا أنني شخصيًا، كطالبة تمريض، واجهت العديد من التحديات في محاولة نشر التوعية حول هذا الرابط بين الطواقم الصحية . كنت أسمع دائمًا تعليقات مثل “شو دخلنا بالتغير المناخي؟ هذا مش شغلنا!” وكأنّها قضايا بعيدة عنا ولا تهمنا. هذه اللامبالاة لا تأتي من فراغ، فغالبًا ما نشعر أن المشاكل البيئية بعيدة عن مهامنا اليومية، بالرغم من أن آثارها تظهر أمامنا بشكل واضح في العيادات وغرف الطوارئ. في واقع الأمر، لا يوجد دعم مؤسسي حقيقي أو برامج تدريبية تساعدنا على فهم هذه العلاقة بشكل عميق. المؤسسات الصحية تفتقر إلى هذا الوعي، والمجال التعليمي لا يعطينا الأدوات التي نحتاجها لتطوير معرفة شاملة حول كيفية تأثير التغير المناخي على صحة الناس. حتى داخل مؤسساتنا، نغيب عن النقاشات التي تتعلق بهذه القضية المهمة. والنتيجة؟ الجهود الفردية التي نبذلها في هذا السياق تظل غير مستدامة ولا تحقق التغيير المطلوب. المشكلة أكبر من مجرد تغييرات صغيرة، بل هي مسألة وجود تستدعي تدخلنا الفعلي ودمج هذا الموضوع في خطط السياسات الصحية.
التغير المناخي وكشف ازدواجية المعايير في العدالة الاجتماعية
إن التغير المناخي لا يهدد صحة الإنسان فقط أو صحة الكوكب، بل يكشف عن ازدواجية مؤلمة للمعايير في العدالة الاجتماعية والصحية بين الدول والمجتمعات. فالمجتمعات الفقيرة، التي لم تسهم سوى بنسب ضئيلة في انبعاثات الكربون، تجد نفسها في مواجهة أعنف الآثار الصحية والبيئية. وقد كشفت الحرب الأخيرة على قطاع غزة، بشكل مؤلم، زيف الادعاءات حول العدالة المناخية، حيث تجاهل العالم حجم الكارثة البيئية والإنسانية التي خلّفها العدوان، من تدمير للبنية التحتية الصحية، وتلوث للمياه والهواء، وتهجير للسكان في ظروف بيئية غير آدمية. هذه الازدواجية في التعامل تُثبت أن العدالة المناخية، كما تُطرح في المحافل الدولية، ما زالت بعيدة عن التطبيق الفعلي عندما يتعلق الأمر بشعوب تعاني من الاحتلال والفقر والحرمان.
التغير المناخي كقضية أخلاقية وإنسانية في المنطقة العربية
من هنا، يجب أن ننظر إلى التغير المناخي كقضية أخلاقية وإنسانية، لا كظاهرة علمية فقط. فالعدالة المناخية هي امتداد للعدالة الصحية، وحماية كوكب الأرض مسؤولية جماعية تتطلب منا إعادة النظر في أنظمتنا الصحية والتعليمية والاقتصادية، خصوصًا في المنطقة العربية التي تواجه تحديات كبيرة نتيجة للصراعات المستمرة، والهشاشة البيئية، وعدم وجود بنية تحتية قادرة على التكيف مع آثار التغير المناخي. المستقبل الذي نطمح إليه لا يمكن أن يكون مستدامًا إلا إذا كانت البيئة فيه محمية، والصحة فيه أولوية، والعدالة فيه مبدأ لا يُساوم عليه.
إن المنطقة العربية بحاجة إلى تكاتف الجهود لمواجهة هذه الأزمة، من خلال توفير السياسات البيئية والصحية المتكاملة، والعمل على تعزيز الوعي المناخي داخل المجتمعات. فالتحديات التي تواجها المنطقة تتطلب استجابة قوية على المستوى المحلي والدولي، لتفادي المزيد من الأضرار الصحية والبيئية التي قد تهدد مستقبل الأجيال القادمة.
علاوة على ذلك، يجب أن نسعى لتحقيق الاستقلالية في مواجهة هذه الأزمة، من خلال الاستفادة من الموارد العالمية المتاحة والعمل على تطوير حلول محلية تتناسب مع واقعنا. من المهم أن نبرز أصواتنا في المحافل الدولية، وأن نكون جزءًا من النقاشات العالمية حول التغير المناخي، لنضمن أن قضايا المنطقة العربية تكون جزءًا من الحلول المطروحة، وأن تكون لدينا القدرة على التأثير واتخاذ القرارات التي تتماشى مع الوضع الذي نعيشه وان تخدم مصالح شعوبنا في مواجهة تحديات المناخ.
لم يعد التغير المناخي أمرًا يمكن تجاهله، بل أصبح ضرورة ملحّة، خاصة في منطقتنا العربية التي تواجه أزمات بيئية وصحية متزايدة. ومع ضعف الأنظمة الصحية وغياب العدالة في التعامل مع آثار المناخ، علينا أن نفكر جيدًا في دورنا كأفراد ومجتمعات.
الصحة والبيئة والعدالة ليست قضايا منفصلة، بل هي مرتبطة ببعضها، ولا يمكن معالجة واحدة دون الأخرى. ولا يمكن أن نُحدث تغييرًا حقيقيًا إلا إذا عملنا معًا بوعي وجهد مستمر.
قد لا نستطيع تغيير العالم مرة واحدة، لكن يمكننا أن نبدأ من أنفسنا: بنشر الوعي، وتغيير العادات، والمطالبة بسياسات عادلة تضع الإنسان والبيئة في مركز الاهتمام
بالنهاية ، لن نجد الصحة في كوكب مريض، ولا عدالة في عالم أدار ظهره للضعفاء
منظمة الصحة العالمية. (2014). التقييم الكمي لمخاطر تغير المناخ على أسباب مختارة للوفاة
في الأعوام 2030 و2050. جنيف: مطبعة منظمة الصحة العالمية. https://www.who.int/publications/i/item/9789241507691
Kreslake, J. M., Sarfaty, M., Roser-Renouf, C., Leiserowitz, A. A., &
Maibach, E. W. (2018). الأدوار الحيوية للمهن الصحية في الوقاية من تغير المناخ والاستعداد له. المجلة الأمريكية للصحة العامة، 108(S2)، S68-S69.
https://pmc.ncbi.nlm.nih.gov/articles/PMC5922192/
لصحة العالمية تطالب بدمج الصحة بشكل عاجل فى مفاوضات مؤتمر المناخ”، اليوم السابع، 8 نوفمبر 2024.
الصحة العالمية تطالب بدمج الصحة بشكل عاجل فى مفاوضات مؤتمر المناخ COP29 – اليوم السابع
قطاع غزة يواجه كارثة بيئية غير مسبوقة بفعل الحرب الإسرائيلية”، الرسالة نت، 8 نوفمبر 2024.
https://n9.cl/15xkx


