كلمات- اية أبو علي
كيف يمكننا إنقاذ المدن من التغير المُناخي؟ في كل صباح حين تشرق الشمس نجد أنفسنا في مواجهة واقع جديد، حيث تغير المناخ لم يعد مجرد حديث في المؤتمرات بل أصبح حقيقة تمس حياتنا اليومية. السماء التي اعتدنا زُرقتها باتت تُلبّدها سحب سوداء من التلوث والأنهار التي كانت تنبض بالحياة أصبحت تنحسر تدريجياً بسبب الجفاف.. إذاً كيف سنحمي مدننا من هذا المصير الأسود؟ وكيف نعيد التوازن بين الإنسان والطبيعة باكراً؟
يُعدُّ التغير المناخي من أخطر التحديات التي تواجه البشرية في القرن الحادي والعشرين، حيث أن ارتفاع درجات الحرارة، وتزايد الظواهر الطبيعة القاسية وارتفاع منسوب البحار يهدد المدن والمجتمعات حول العالم ولمواجهة هذه التحديات يجب تبني استراتيجيات للتكيف والصمود أمام التغيرات المفاجئة لا سيما في المدن الأكثر عرضة للخطر.
التكيف مع المناخ: ضرورة حتمية للوجود
التكيف المُناخي يحتاج تغييراً جوهرياً في تخطيط وإدارة المدن، لتطوير حلول مستدامة تساعد في التعامل مع الظواهر المُناخية السريعة ومن هذه الحلول: البنية التحتية المقاومة للمُناخ بحيث يجب أن تكون المباني والطرق والجسور مصممة لتحمل الفيضانات والعواصف وغيرها باستخدام مواد البناء المستدامة وتقنيات تعزز متانة المنشآت.
تعزيز الزراعة المستدامة حيث للأمن الغذائي دوراً في مواجهة التغير المُناخي وتبني تقنيات الزراعة الذكية مثل أنظمة الري الموفرة للمياه والمحاصيل المقاومة للجفاف والزراعة الرأسية داخل المدن. بالإضافة لإدارة الموارد المائية من خلال إعادة تدويرها وتقليل هدرها وإنشاء أنظمة حصاد مياه الأمطار حيث أن المياه العذبة ممكن أن تصبح أقل ندرة بسبب التغير المُناخي.
وتعاني الدول العربية من تحديات بيئية كبيرة، حيث تشهد ارتفاعاً ملحوظاً في درجات الحرارة، وقلة في كميات الأمطار بالتالي زيادة الجفاف مما يؤثر على الأمن الغذائي والمائي ويزيد من خطر التصحر لذا يعد التكيف أمراً ملحاً في مواجهة هذه المعركة مع الزمن، ووفقاً للبنك الدولي فأن المنطقة تحتوي على أقل من 2% من المياه المتجددة في العالم مما يزيد من شح المياه مثلاً: تواجه العراق التصحر بسبب قلة هطول الأمطار وارتفاع درجات الحرارة الأمر الذي انعكس سلباً على الزراعة وأدى لهجرة المزارعين للمدن.
كما تواجه دلتا النيل خطر ارتفاع منسوب مياه البحر مما يهدد الأراضي الخصبة ويؤثر على الأمن الغذائي حيث تعمل مصر على تحسين أنظمة الري وغيرها لمواجهة هذه المخاطر حيث أن ارتفاع مستوى سطح البحر بمقدار متر واحد قد يؤثر على 3.2% من سكان المنطقة و1.49% من الناتج المحلي الإجمالي.
كما وتواجه السعودية نقصاً حاداً في المياه الجوفية وذلك دفعها للاستثمار في تقنيات تحلية المياه واستخدام الطاقة الشمسية في توفير المياه العذبة، بينما قامت الإمارات بتطوير مدن مستدامة مثل “مصدر” في أبو ظبي التي تعتمد على الطاقة الشمسية والاستدامة البيئية، وأطلقت المغرب مشروع “نور” للطاقة الشمسية وهو من أكبر مشاريع الطاقة في العالم للحد من الانبعاثات الكربونية وتقليل استخدام الوقود الأحفوري.
ومن أفضل الممارسات لمواجهة التغير المناخي في الدول العربية التخطيط العمراني المستدام كتبني المدن المباني الخضراء وأنظمة النقل الصديقة للبيئة وزيادة المساحات الخضراء لتحسين جودة الهواء وخفض الحرارة، والابتكار في المواجهة من خلال تقنيات الذكاء الاصطناعي وإنترنت الأشياء لمراقبة التغيرات المناخية وتحسين إدارة الموارد.
تحتاج الدول العربية لقوانين صارمة تعزز من استخدام الطاقة المتجددة كالشمس والرياح وتقليل استعمال الوقود وتقنيات تحلية المياه وإعادة تدويرها وبناء السدود وأنظمة التخزين لتحقيق الأمن المائي.. والوعي البيئي أساس التكيف المناخي.
المدن تحت التهديد: ما الحل؟
المدن التي كانت يوماً مراكز حضارية أصبحت اليوم مهددة بالتغير المُناخي لذلك لا بد من تبني حلول مستدامة لتقليل خطرها ويكون ذلك بالتخطيط العمراني المستدام حيث الأنظمة الرقمية التي تتنبأ بالكوارث قبل حدوثها، واستخدام التكنولوجيا الذكية لاتخاذ إجراءات استباقية لحماية الأرواح والبنية التحتية، وحماية المناطق الساحلية ببناء الحواجز البحرية وزراعة أشجار “المانغروف” للدفاع ضد العواصف وكفاءتها في تخزين الكربون… فالطبيعة لا تنتظر.
إن مواجهة التطور المناخي تتطلب حلولاً غير تقليدية كالمدن العائمة التي تعتمد على الطاقة المتجددة مثل مشروع “أوشنكس” في هولندا، والخرسانة الخضراء لتطوير مواد بناء تمتص ثاني أكسيد الكربون من الجو وتقليل الانبعاثات، واستخدام الطحالب في إنتاج الوقود الحيوي، والأبنية الذكية ذات الجدران الحية لتحسين جودة الهواء وخفض الحرارة.
التغير المناخي تحد عالمي لكنه أيضاً فرصة لبناء مستقبل أكثر استدامة وتحويل الأزمة إلى فرصة وجعل مستقبل المدن أكثر إشراقاً وازدهاراً. ويجب أن تتبنى الحكومات سياسات ذكية تضم التشريعات والخطط الاستراتيجية والتعاون الإقليمي لضمان استدامة الموارد المائية وغيرها.
ومنها وضع تشريعات صارمة لترشيد استهلاك المياه من خلال تقنين استخدام المياه وفرض رسوم تصاعدية على استهلاك المياه ومنع التعدي على الموارد المائية الجوفية عبر تنظيم حفر الآبار ومراقبة استخدامها، والاستثمار في تحلية المياه وتقنيات التكرير توسيع مشاريع التحلية كما فعلت السعودية في مشروع “رابغ 3” الذي يعتمد على الطاقة الشمسية والرياح.
بالإضافة لتقنية “التناضح العكسي” التي تعتمد طاقة منخفضة لتقليل الاستهلاك وتحسين الكفاءة، وإعادة تدوير مياه الصرف الصحي كما هو الحال في سنغافورة حيث يعاد استخدام 40% من مياه الصرف المعالجة ودعم مشاريع الحصاد المائي والسدود كما فعلت المغرب في “سد الوحدة” وتحليل استهلاك المياه وتقديم توصيات عبر تقنيات الهاتف المحمول مثل:”water smart” في أستراليا.
وتعزيز التعاون الإقليمي والدولي في إدارة المياه مثل اتفاقيات نهر النيل بين مصر والسودان وإثيوبيا لضمان التوزيع العادل للمياه، وإقامة مشروعات مشتركة لتحلية المياه كالتعاون بين الإمارات والسعودية والمشاركة في مبادرات عالمية لحماية الموارد المائية مثل “اتفاقية باريس للمناخ”.
ومن الاستراتيجيات التي تساهم في صمود المدن وتكفيها امام التغيرات المناخية التصميم العمراني الذكي بحيث يسمح بتدفق الهواء ومقاومة الحرارة المرتفعة وزيادة المساحات الخضراء والأسطح العاكسة في تصميم المباني لتقاوم الحرارة.
والتحول في الاستخدام الى الطاقة النظيفة المتجددة كطاقة الشمس والرياح للتخفيف من الاحتباس الحراري، واعتماد المباني تقنيات حديثة لتوفير الطاقة، والاعتماد على تقنيات الإنذار المبكر وإنشاء بنية تحية مقاومة للكوارث وقادرة على تحملها، واستعادة الأراضي الرطبة كمصدات للفيضانات واستخدام التكنولوجيا لمراقبة البيئة والذكاء في التنبؤ بالمخاطر المناخية.
والاستفادة من مشاريع الطاقة من النفايات بتحويل النفايات الصلبة إلى طاقة من خلال التحويل الحراري وزرع ثقافة إعادة التدوير لاستخدام المواد بشكل فعال ودعم الأبحاث في حلول مواجهة هذه التحديات المناخية.
ومن هنا يبرز دور التوعية والمشاركة المجتمعية بحيث يجب أن تكون المجتمعات المحلية جزءاً من التكيف مع التغير المناخي وحملات التوعية التي تُحفز المواطنين على السلوك المستدام وتدريبات الاستجابة للطوارئ والاستثمار في التعليم البيئي بحيث تحتوي المناهج الدراسية على التغير المناخي لزيادة وعي الأجيال.
إن القدرة على مواجهة التغيرات المناخية السريعة تتطلب تكاثف جميع الجهات على جميع الأصعدة للقدرة على مجاراة الطبيعة بدءاً من التخطيط العمراني المستدام إلى التحول للطاقة المتجددة، وتطوير بنية تحتية مرنة أساس بناء مدن متكيفة.
المعركة مع الطبيعة صراع طويل مستمر يتحدى فيها الإنسان قدراته وتبرز مدى إرادته القوية في المواجهة والقتال للاستمرارية والوجود وإن كل سلوك وخطة واستراتيجية وتعاون مجتمعي ما هو إلا تاريخ ُ يكتب على الأرض وتعزيز لصمود البشرية المستدام مع الطبيعة وإثبات لأحقية الوجود الإنساني المتكيف مع الطبيعة.



