أن نحرق إرثنا هي آخر محاولة للبقاء: عندما يُشعل العراقيون النار لحماية حضارة الأهوار
أشعل سكان الأهوار في جنوب العراق مضيف القصب بالنار كوسيلة للتعبير عن غضبهم واحباطهم العميق. ما لا نراه أن النار التي تشتعل في المضيف قد بدأت تتقد في قلوب هؤلاء المزارعين والصيادين منذ زمن طويل، قبل أن يتحول هذا المعلم الثقافي إلى رماد.
في هذه الصورة لا نرى مجرد حطام مادي، بل انهيارًا لجذور الحضارة التي تمتد عبر آلاف السنين. أستذكر زيارتي الأولى إلى الأهوار، حيث كانت الطبيعة الخلابة و المضايف تعكس عبق التقاليد والموروث الثقافي العريق. والآن، لم يتبقَ من تلك الذكريات سوى الرماد الذي تطاير وغطى جزءًا عزيزًا من هويتنا وثقافتنا.
إن حرق مضيف القصب يمثل أكثر من مجرد فعل إحتجاجي؛ إنه صرخة من الأعماق، تعبر عن آلام جيل كامل واجه الفقدان والإهمال.
تعتبر الأهوار العراقية، الممتدة عبر جنوب العراق، من بين أكثر النظم البيئية تميزًا في العالم. كانت هذه المناطق المائية، التي تعرف بمساحتها الشاسعة من النباتات والطيور والأسماك، تشكل القلب النابض لحضارة قديمة تعود لآلاف السنين.

لكن هذه الواحة البيئية تواجه اليوم جفافًا حادًا يهدد بقاءها، ويعرض حياة سكانها وإرثها الثقافي للخطر. أصبح الاحتراق الرمزي للمضيف في الأهوار، والذي حدث مؤخرًا على يد السكان المحليين، تجسيدًا للمعاناة والمطالب التي لم تجد أذنًا صاغية.
المَضيف، الذي يعد رمزًا لتراث سكان الأهوار، تم إحراقه في جنوب العراق في حدث صادم يعكس حالة الغضب والإحباط العارم لدى المجتمع المحلي. لطالما كان المضيف ملتقى للعائلات ومكانًا للاجتماع في المناسبات والاحتفالات، لكنه أصبح اليوم رمادًا بفعل يائس أراد أن يلفت أنظار العالم إلى الكارثة البيئية التي تعصف بالأهوار. لم يكن هذا الاحتراق مجرد فعل احتجاجي عشوائي، بل كان رسالة قوية تشير إلى أن سكان الأهوار فقدوا الأمل في إيجاد حلول لمشكلتهم المتفاقمة، حيث أصبحت المياه نادرة بشكل غير مسبوق، مما دفع الآلاف إلى الهجرة وترك موطن أجدادهم.
التغيرات المناخية وضغط الموارد المائية
منذ عقود، كانت الأهوار تعتمد على تدفقات المياه من نهري دجلة والفرات للحفاظ على استمراريتها. ومع مرور الزمن، وتزايد الضغوط السياسية والاقتصادية على دول المنبع -تركيا وإيران، تراجعت كميات المياه المتدفقة إلى العراق. يوضح الخبير جاسم الأسدي من “منظمة طبيعة العراق” أن مساحة الأهوار التي كان من المفترض إغمارها بالمياه بعد 2003 وصلت إلى 5560 كيلومترًا مربعًا، لكن ذلك لم يتحقق بسبب النقص الحاد في المياه. وما يزيد الطين بلة هو التغير المناخي الذي أدى إلى تصاعد درجات الحرارة وزيادة فترات الجفاف الشديد، ما جعل محاولات استعادة الحياة الطبيعية للأهوار أكثر صعوبة.
في عام 2019، كان هناك بصيص أمل حيث شهدت بعض الأهوار عودة المياه جزئيًا، ولكن سرعان ما عادت الأزمة إلى الواجهة بعد ذلك، مما أدى إلى استمرار الجفاف حتى يومنا هذا. هذه الظروف القاسية جعلت من المستحيل على السكان المحليين الاستمرار في عيش حياتهم التقليدية التي تعتمد على الصيد وتربية الجاموس، ما دفع الكثيرين إلى الهجرة بحثًا عن فرص جديدة بعيدًا عن أراضيهم
الأثر الاجتماعي والبيئي للجفاف
نزوح سكان الأهوار بسبب الجفاف ليس مجرد انتقال من مكان إلى آخر، بل هو فقدان لتاريخ وثقافة ممتدة لآلاف السنين. تعاني الأهوار من تأثيرات اجتماعية واقتصادية هائلة، حيث يقول مدير بيئة ذي قار، د. محسن عزيزي، أن خروج السكان من الأهوار يعني فقدان المنطقة للركن الأساسي الذي عرفت به، وهو العيش بأسلوب الحياة التقليدي الذي استمر لأجيال عديدة. هذا النزوح الجماعي لا يؤثر فقط على السكان، بل يهدد أيضًا بفقدان التنوع البيئي الفريد الذي تتمتع به الأهوار، حيث يعتمد الكثير من الكائنات الحية على هذا النظام البيئي المائي للبقاء
بالإضافة إلى ذلك، يشير عدنان الموسوي، مدير مركز إنعاش الأهوار التابع لوزارة الموارد المائية، إلى أن الجفاف لا يؤثر فقط على السكان، بل يعرض التنوع البيئي الهش في الأهوار للخطر. النباتات المائية التي كانت تغطي هذه المناطق تتلاشى تدريجيًا، مما يؤدي إلى تدهور شامل في النظام البيئي
الأهوار والتراث العالمي
تم تصنيف الأهوار كموقع تراث عالمي في عام 2016، وذلك لاعتبارها واحدة من أقدم وأهم المناطق البيئية في العالم. لكن مع استمرار الجفاف، أصبح من الممكن أن تفقد الأهوار هذا التصنيف، ما لم يتم اتخاذ إجراءات عاجلة.
إن حرق مضيف القصب، الذي يمثل جزءًا أساسيًا من التراث السومري، يحمل دلالة عميقة، حيث يعد تحذيرًا من كارثة وشيكة. هذا الاحتجاج يعكس وعي سكان الأهوار بمخاطر تفاقم الأزمات البيئية والاجتماعية، فهو نداء يعبر عن إدراكهم لمستقبل مظلم قد يواجهونه إذا لم يتم تدارك الأمور. لكن السؤال الذي يطرح نفسه هو: هل ستستجيب الحكومة العراقية وتباشر بفتح ملف هذه الازمة بصورة جدية؟
إن هذا الفعل ليس مجرد رد فعل عاطفي، بل هو دعوة للتغيير والإصلاح. يعكس إحباطًا عميقًا من تدهور الوضع البيئي وغياب الحلول الجذرية. يتطلب الأمر من السلطات أن تنصت إلى هذه الأصوات، وأن تدرك أن حماية الأهوار وحياة سكانها ليست مجرد مسؤولية محلية، بل هي قضية تتعلق بالاستدامة البيئية والتراث الثقافي الذي يمتد لآلاف السنين.
الأهوار ليست مجرد مكان جغرافي، بل هي قلب نابض للهوية العراقية. إذا استمرت الحكومة في تجاهل هذه النداءات، فقد نشهد فقدان جزء كبير من تاريخنا وثقافتنا، مما سيترك أثرًا دائمًا على الأجيال القادمة
رسالة إلى المجتمع الدولي
اليوم، تقف الأهوار العراقية على حافة الهاوية. يجب أن يدرك المجتمع الدولي أن هذه الأزمة ليست مجرد مشكلة محلية، بل هي جزء من التغيرات المناخية العالمية التي تؤثر على المناطق الهشة بيئيًا. إن الاحتراق الرمزي للمضيف هو نداء استغاثة من سكان الأهوار يطالبون فيه العالم بالتحرك. إذا لم يتم اتخاذ إجراءات دولية عاجلة للتعامل مع هذه الأزمة، فإننا قد نفقد ليس فقط نظامًا بيئيًا فريدًا، بل جزءًا من إرث الحضارة الإنسانية الذي يعود لآلاف السنين.
في النهاية، يشكل مستقبل الأهوار اختبارًا حاسمًا لقدرة العالم على التعاون لمواجهة التحديات البيئية. الأمل ما زال موجودًا، لكن الوقت ينفد.
المراجع و المصادر:
1- “سكان الأهوار يهجرون موطن الأجداد بحثًا عن المياه”، موقع العالم، 2023. رابط
2- “موجة جفاف كبيرة تضرب الأهوار العراقية”، الشرق الأوسط، 2023. رابط
3- “90% من أهوار العراق ضربها الجفاف”، بغداد اليوم، 2023. رابط
4- “أزمة المياه والجفاف جنوبي العراق”، الجزيرة، 2024. رابط
5- الصورة مقتطفة من تسجيل فيديو لحسن النجار.

كاتبة شابة من العراق، أؤمن بقوة الكلمة وأثرها في إحداث تغيير إيجابي في المجتمعات. أكتب عن القضايا البيئية والاجتماعية، مع التركيز على تنمية دور الشباب في بناء مستقبل أكثر استدامة. شاركت في مبادرات شبابية محلية ودولية، وأقمت ورش عمل لرفع الوعي حول تغير المناخ، وقمت ببحوث ميدانية عن الطاقة المتجددة خلال دراستي في ألمانيا. أسعى دائمًا لدمج المعرفة الأكاديمية مع العمل المدني لتقديم رؤى وأفكار تُلهم الآخرين وتُساهم في صنع الفرق.